قاسم حسين
تحتفل الشعوب المبتلاة بلوثة التمييز، في الحادي والعشرين من مارس/ آذار، بيوم مناهضة التمييز العالمي، بينما يمر هذا اليوم على الشعوب المعافاة من هذا الداء مرور الكرام.
التمييز لوثة عقلية وعاهة نفسية عانت منها البشرية ولاتزال. ولم يعدم المرضى أسباباً تدعوهم إلى التمييز وظلم الآخرين، والافتئات عليهم وانتقاص حقوقهم. مرة بسبب اختلاف العرق، ومرةً لاختلاف اللغة، ومرة لاختلاف المذهب والدين وغيرها من أسباب واهية، كلها تلتقي في تبرير هذه اللوثة المعادية للإنسان.
الله خلق بني آدم ودعاهم إلى التعارف والتآلف والتعاون على الخير المشترك، لكن الأنانية ونزعة الاستئثار وحب الذات، سوّلت لكل مريض أن يستطيل على غيره، ويسلب حقه، ويعيش على حسابه.
البشرية احتاجت إلى آلاف السنين، لتغادر كهوفها وتخرج من غاباتها، لتستقر على ضفاف الأنهار، وتبني المدن وتؤسس الحضارات، لكنها لم تتخلص من الروح الأنانية. واحتاجت إلى آلاف الرسل والأنبياء، ليقنعوهم بأنهم جميعاً لآدم، وآدم من تراب.
كل الحروب والكوارث التي حاقت بالبشر، سببها التمييز والتكبر والاستعلاء. وفي ختام الرسالات، أقام النبي (ص) مجتمع العدل والمساواة، وساوى بين القبائل، ووضع العصبيات تحت رجليه، وأعلن ألا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى. ولم تنقضِ فترة الخلفاء الراشدين حتى عاد التفاخر بالأنساب والتنابز بالألقاب والصدام بين القبائل.
حتى في «قرون التنوير» في أوروبا، كانت المظالم والتمييز واستعباد البشر، وظلّ ذلك إرثاً حاكماً في حركة الاستعمار واحتلال البلدان وسرقة ثرواتها. حتى العالم الجديد لم يبنِ ازدهاره إلا على أجساد ملايين الأفارقة الذين استرقهم الأوروبيون وحوّلوهم إلى عبيد. وظل ذلك الميراث الوحشي قائماً بحراسة القوانين حتى منتصف القرن العشرين، ولم تسقط إلا بعد تضحيات جسام وعذابات. احتاج الأميركيون إلى حركة الحقوق المدنية، التي ناهضت التمييز العنصري بسبب اللون، الذين قادوا المظاهرات، وحاضروا في الجامعات، ورتّلوا الصلوات في الكنائس، ودخل أنصارها السجون بالمئات. ولم تثمر الحركة إلا بعد عقودٍ طويلة، على رغم وضوح الرسالة وعدالة القضية، وذلك بسبب شراسة القوى الرجعية التي تناهض المساواة والعدل الذي سيحرمها من امتيازاتها وغنائمها.
اليوم، تحتفل أعلى هيئة أممية، (الأمم المتحدة)، بـ «اليوم العالمي للقضاء على التمييز العنصري» لتأكيد الالتزام بإرساء عالمٍ من العدل والمساواة والكرامة، لا مكان فيه للتمييز العنصري. وهي المطالب الرئيسية الكبرى التي تمحور حولها حراك الربيع العربي منذ ثلاثة أعوام، من شمال إفريقيا إلى دول الخليج والشام.
التمييز، سواءً بسبب اللون أو الدين أو اللغة أو العرق، يحرم المجتمعات من السلام والاستقرار، ويقوّض الحياة ويهدم كرامة البشر. ويبدأ كل ذلك بخطأين: تأليه الذات ونفي وجود الآخر. الخطأ الأول يقتل الذات، والثاني يقتل الآخر، والنتيجة ما نراه من تكفيرٍ وتخوينٍ وقتلٍ وإشاعةٍ للكراهية وتفجيرات جماعية تطول أكثر ما تطول الأبرياء.
على مستوى بلدنا الصغير، لا يملك أحدٌ تبرئة الوضع السياسي من هذه اللوثة على الإطلاق، فقد عوّمت المعالجة الأمنية العنيفة ممارسة التمييز ليطفو على السطح، بعد أن كان يُمارس مواربةًً أو من وراء حجاب. ولم يكن صدفةً أن تكون الغالبية الساحقة من الشهداء والسجناء والمعتقلين من طيف اجتماعي واحد، فضلاً عن الآلاف ممن فُصلوا من أعمالهم، وتعرّضوا للترويع والتجويع.
في يوم «مناهضة التمييز»، تنتظرنا ملفاتٌ واستحقاقاتٌ كبرى بحاجةٍ إلى معالجةٍ لنتشافى من لوثة التمييز، لنستعيد كرامتنا وإنسانيتنا التي أضعناها، وروح التسامح التي ورّثناها الأجداد.