د/ علي محمد فخرو
لدينا، نحن العرب، صعوبة في فهم الطريقة التي يتعامل بها بعض ساسة ومحلًلي الغرب مع التاريخ العربي الحديث، وخصوصاً مع بعض التعابير المستعملة في وصف حوادث ذلك التاريخ. ويشعر الإنسان أحياناً بأن الأهداف والممارسات السياسية الآنية المكيافيلية تلعب دوراً في تشويه قراءتهم ذلك التاريخ.
دعنا نعطي مثالاً لما نعنيه من خلال الحدث التالي: في كلمة لدبلوماسي بريطاني، في مؤتمر سياسي دولي، وعلى أرض الخليج العربي، وعلى مسمع من شعوبه، أعلن عن اعتقاده بأن خروج بريطانيا في مطلع السبعينات من القرن الماضي، عسكراً وهيمنة، من الخليج العربي، كان خطأ فادحاً ارتكبته حكومة بلاده في حينها. دعنا بهدوء تام نبين له ما نعتقد أنه وجهة نظر مخالفة لما قاله. ذلك أن غالبية شعوب ومسئولي ومجتمعات الخليج العربي يقرأون ذلك الحدث بصورة أخرى.
أولا: هناك تمويه لا نفهمه بشأن طبيعة التواجد البريطاني في أرض الخليج العربي، الذي امتد لما يزيد عن 150 سنة. أفلم يكن تواجداً استعمارياً في شكل تواجد عسكري هنا أو هناك، وهيمنة على الحياة السياسية والاقتصادية من قبل المقيمين البريطانيين؟ ألم يكن غياباً لأي سيادة وطنية ولأي متطلبات للاستقلال الوطني؟ ألم يكن ممثلو الحكومة البريطانية المقيمون هم الآمرون والناهون في كل كبيرة وصغيرة؟
نحن بالطبع على علم بأن القوانين البريطانية، بل وحتى العلاقات الدولية، كانت في حينها تعرُف الدولة الحامية بأنها دولة تقوم بتهيئة الدولة المحمية اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً لتصبح مهيُأة لإعلان استقلالها الوطني. لكننا نحيل الدبلوماسي البريطاني إلى قاموس الفكر السياسي الذي ألًّفه البريطاني روجر سكروتون في الثمانينات من القرن الماضي والذي بعد تعريفه لكلمة الحماية وأهداف الحماية الجميلة التي ذكرنا سابقاً يضيف جملة لها دلالاتها العميقة. يقول المؤلف: «كثيراً من المستعمرات البريطانية تمتعت بصفة الحماية (مثل روديسيا)، ولكن هناك خلافات فيما إذا كانت قد حظيت بما تتطلبه وتفرضه كلمة حماية». وبمعنى آخر فقد ألبست الكثير من المستعمرات لباس الحماية، خداعاً وتجميلا، مع أنها لم تحصل على ميزات الحماية، وإنما حصلت على سوءات الاستعمار. وعندما خرج البريطانيون منها فإنهم قد خرجوا مرغمين أو مضطرين.
وهذا ما حدث بالضبط للوجود البريطاني في إمارات الخليج العربي. ولذلك فالانطباع الذي أعطاه الدبلوماسي البريطاني على الخروج من الخليج، يوحي بأن الانسحاب البريطاني كان تعطفاً ومنًة من الحكومة البريطانية، وبالتالي كان قراراً خاطئاً لا دخل لحكومات وشعوب الامارات، ولا حتى للظروف الدولية، في إرغام الحكومة البريطانية على اتخاذ ذلك القرار التاريخي بالانسحاب.
بل إن في كلام الدبلوماسي إيحاءً بأن امارات الخليج العربية آنذاك لم تكن مهيًأة للحصول على استقلالها. ونضيف بأن هناك إيحاءَ بأننا، حكاماً وشعوباً ومجتمعات، لم نكن نستحق الاستقلال الوطني، وإلاً لما أسف الدبلوماسي على انتهاء الحماية.
ثانياً: يظهر أن الدبلوماسي لا يعتبر أن دول الخليج العربية هي جزء من الأمة العربية، وأنها لذلك تحمل همومها وتغضب لما يصيب أي جزء منها بالأذى والظلم.
لنذكره بأن في قلب ووجدان كل فرد من شعوب دول الخليج العربية ألما ولوعة وغضباً تجاه حادثين تاريخيين مفجعين ارتكبهما النظام السياسي البريطاني في الماضي.
الحادث الأول يتمثًل في وعد بلفور الشهير، الذي بموجبه خانت بريطانيا دورها ومسئوليتها كسلطة حامية، وذلك عندما سلمت الجزء الأكبر من أرض فلسطين العربية المحمية لمجموعة من العصابات الصهيونية، وقادت إلى تشريد الملايين من العرب الفلسطينيين خارج بلادهم.
اليوم، والسلطة الصهيونية المحتلة ترفض رجوع المشردين الفلسطينيين إلى أرضهم ومنازلهم، وتتكلم عن الانتقال لجعل فلسطين العربية كياناً يهودياً لا مكان للعرب فيه، وتبني المستعمرات في كل شبر بسطوة السلاح والجند والبرابرة الآتين من كل أصقاع العالم… الآن لا نرى موقفاً أخلاقياً حازماً واحداً من قبل الدولة التي أعطت أرضاً مؤتمنة عليها ولاتملكها للصوص استولوا عليها باسم أساطير دينية مختلفة ومتخيلة.
أما الحادث الثاني فهو الدًور المخادع، المبنيُ على الكذب والتلفيق، الذي لعبته حكومة طوني بلير البريطانية، بالتواطؤ مع رئيس الولايات المتحدة الجاهل المغرور السابق جورج بوش الابن، وذلك لاحتلال العراق وتدميره مجتمعاً ووطناً وجيشاً وإدخاله في حياة الضياع الطائفي، ومن ثم تسليمه إلى داعش وأخواتها.
ولا حاجة للزيادة، فالدماء والدموع العراقية لاتزال تبلل أرض العراق المبتلى المدمر.
ثالثاً: وإذاً فالدبلوسي، في محاضرته، لم يقرأ التاريخ بصورة خاطئة فقط ويقلب تعقيداته التاريخية إلى مجرد خطأ تكتيكي ارتكبته حكومة بلاده في حينها، وإنما يتناسى الجروح العميقة في وجدان الإنسان العربي التي نتجت عن القرارات الاستعمارية الظالمة التي أخذتها ونفذتها بلاده بحُق شعبين عربيين لم يرتكبا خطأً قط تجاه بلاده وشعبه.
ولذا، فعندما يعلن الدبلوماسي، بابتسامة عريضة وفخار صارخ، مبشراً ومهللاً، بأن الجيوش البريطانية ستعود إلى أرض العرب لحمايتها، فهل يعتقد حقاً أن مياه بحار العرب قادرة على غسل يد القتلة الملطخة بدماء الضحايا؟
إن كان الدبلوماسي يعتقد ذلك فانه لم يقرأ جيداً ما كتبه شكسبير على لسان القاتلة ليدي ماكبث، وأنه أيضاً لا يعرف قراءة التاريخ بموضوعية ومسئولية.
إذا كان المحاضر يريد علاقة أفضل بين العرب وبريطانيا في المستقبل، ونحن نتمنى ذلك، فعلى دولته أن تمارس الاعتذار من جهة وتبذل من جهة أخرى جهداً مخلصاً لتصحيح نتائج ما ارتكبته بعض حكوماتها من أخطاء نعيش إلى اليوم مصائبها ومآسيها.
كان على المحاضر أن يعي بأن الحاضر هو مرآة تعكس الماضي وبوصلة تحدد المستقبل، وأن علاج الحاضر لا ينفصل عن كليهما.