د/ علي محمد فخرو
من الظواهر التي تتميز بها الحياة السياسية العربية في مختلف أشكالها ومستوياتها التنظيمية ظاهرة القسوة المفرطة التي تصل أحياناً إلى ممارسة ساديّة سوداء . ولأن قسوة القلب صفة مبتذلة فقد دان القرآن الكريم أصحابها بشدة، بأن جعلهم من الذين لا يشعرون بوجود الله ومراقبته في حياتهم، وهو وضع قريب من الكفر (ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم)، ونسيان النفس يعني غياب الضمير الواخز المنبه المانع من ممارسة الشرور .
من المؤكد أن ممارسة القسوة تبدأ في محيط العائلة، أحياناً باسم التربية، وأحياناً باسم رجولة الأب، وأحياناً باسم خوف الأم . وهي ظاهرة على أشدها في البيئة العائلية التي لا تؤمن بالأخذ والعطاء مع الأطفال، وإنما تؤمن بالأوامر والطاعة العمياء والعروش التي يتربع عليها الآباء والأمهات باسم مكانة وقداسة الوالدية . لكن الضرر هنا محدود ومؤقت في أغلبية الأحيان .
أما ممارسة القسوة، باسم هيبة الدولة أو الجيش أو القائد الملهم أو الحزب الطليعي أو الفقه المتخلف، فإنها فاجعة أخلاقية من جهة وعدوى مرضية تنتشر وتقود إلى أشد وأحياناً إلى أقبح ردود الأفعال . هنا لا نتعامل مع أطفال لا حول لهم ولا قوة كما في العائلة، وإنما مع جموع قادرة وقابلة لارتكاب الحماقات .
دعنا نمعن النظر في الحياة السياسية العربية . هنا لاتختلف الأحزاب أو المنابر الإعلامية أو مؤسسات المجتمع المدني بعضها مع بعض بروح الأخذ والعطاء والاحترام المتبادل وتقليب وجهات النظر، إنما تختلف بكل تمظهرات القسوة الفجة المتوحشة: تشهير بالخصم وكذب عنه، شتم وتجريح سوقي، دعوة علنية للتهميش والاستئصال، تجييش لكل غرائز السلطة للبطش بالخصم، حملات شيطنة للمختلف معه إلى حدود الفحش . لا تبقى كلمات بذيئة في القواميس، ولا نكت مبتذلة ولاغمز ولمز إلا ويتمُ استعمالها بحرفية أين منها حرفية غوبلز الألماني أو مكارثي الأمريكي على سبيل المثال .
لكن تلك القسوة المعنوية الظالمة يمكن التعايش معها، إذ تدريجياً بالعقل وصحوة الضمير واستنفار فضيلة الخجل من النفس الأمارة بالسوء يمكن التغلب شيئاً فشيئاً على فحشها . أما ممارسة القسوة المادية الدموية الإجرامية التي بدأت تنتشر كظاهرة مرعبة في أرجاء الوطن العربي فإنها تمثل تحولاً سياسياً واجتماعياً خطيراً ما عاد بالإمكان الصبر عليه أو السكوت عن جرائمه . نعني بذلك ممارسات تتمثل في تفجير شاب نفسه في حشد من المصلين أو تفخيخ سيارة لتنفجر في أناس أبرياء عابرين، أو استعمال أفتك الأسلحة لتدمير القرى والمدن على رؤوس ساكنيها من غير المحاربين، أو في تعذيب الخصوم من المساجين والأسرى بشكل ممنهج مقزٍز وشيطاني حقير .
هذه الأمثلة تحدث الآن يومياً، لا باسم الأيديولوجيات التي تعلم حاملوها من عبر الماضي المريرة، ولكن باسم الإسلام، دين الرحمة والتسامح، وباسم الأمن والاستقرار المصطنعين . لقد وصلنا إلى مرحلة أن العالم كله لا ينام ولا يصحو إلا على أخبار الجنون والعبث والقسوة الوحشية التي تحرق الأخضر واليابس في وطن العرب وعالم الإسلام .
يتطلع الإنسان من حوله ليرى ما الذي نفعله لإيقاف تلك القسوة اللاإنسانية .في الواقع، نفعل القليل القليل . دعني أذكر مثالاً واحداً .
ينتظر الإنسان، بعد كل مذبحة ترتكب يومياً في مسجد أو شارع أو ساحة حرب أو سجن أن يطل الفقهاء من شاشات التلفزيون في اليوم نفسه ليقولوا من دون أية غمغمة: إن الشباب أو المسؤولين الذين يمارسون هذه الهمجية، باسم الشهادة ووعد دخول الجنة أو باسم حماية الوطن، يخالفون شرائع الله وأقوال رسله ودساتير بلدانهم وكل حقوق الإنسان .
ينتظر الإنسان أكثر من ذلك: أن تصدر فتاوى رسمية لا تدين فقط، ولكن تكفر من يرتكب تلك الجرائم والموبقات وهو كاذب على الله وقرآنه ورسله وشرائع الإنسانية .
ينتظر الإنسان خروج الملايين في الشوارع وهي تندد وترفض كما تفعل لأسباب أقل أهمية بكثير . لكن ذلك لا يحدث لأن ممارسة القسوة بكل أشكالها ماعادت تعتبر رذيلة ممقوتة يكرهها البارئ الأعلى وبالتالي تستحق الاجتثاث من عقولنا ونفوسنا ومجتمعاتنا، بل العكس: إننا نؤسس فلسفات أيديولوجية واجتهادات فقهية ومدارس إعلامية لتبرير وزرع تلك الرذيلة في عقل الإنسان العربي .
ما يحدث الآن في العراق وسوريا ولبنان واليمن ومصر وتونس وغيرها من بلدان العرب سيرسخ التعود على القسوة وتحجر القلب طوال قرون مقبلة . نحن أمام مصيبة كبرى جديدة .