د. علي محمد فخرو
أينما جُلت ببصرك في أرض العرب سيدهشك هذا العدد الهائل من المؤتمرات حول السياسات والاستراتيجيات. وسواء أكان ذلك بالنسبة للمستوى الوطني القطري أو المستوى القومي العروبى أو للعلاقات الإقليمية والدولية فإن سيل التحاليل والتوصيات والتحذيرات لا ينقطع، يوما بعد يوم وسنة بعد سنة.
لا يبقى أحد إلا ويدعى: المسئولون عن مراكز الأبحاث والدٍّراسات وكتّاب السياسة وممارسوها. ذلك على الأخصٍّ في منطقة الخليج، في دول اليسر البترولي، التي تتنافس وتتباهى بعدد المؤتمرات وبمكانة من يحضرها. فمكانة من يحضر الأعراس والولائم هي انعكاس لمكانة الدَّاعين. من هنا يظُن المراقبون غير الحذرين بأن أنظمة الحكم العربية تتمتَّع بحسٍّ ثقافي سياسي يجعلها متفاعلة مع الاستنتاجات والتوصيات ومتبنٍّية لها، أو حتى لبعضها، عند وضعها وممارستها للسياسات والاستراتيجيات على المستويات الوطنية والقومية والإقليمية والدولية. لكن الواقع هو عكس ذلك. فلو كانت أنظمة الحكم العربية تقرأ أو تسمع أو تعي ما تقوله وترفعه تلك المؤتمرات لما وصل الحال بأمَّة العرب إلى المستوى المأساوي المزري الكارثى الذي أوصلتها إليه موجات تلو موجات من الحكم الأناني الجاهل الفاسد التسلطي، منذ الاستقلال وإلى يومنا هذا، فيما عدا ومضات قصيرة من المحاولات التحررية التي وأدت في مهدها والتي هي أيضاَ كانت فيها مثالب. لكنَّ المفارقة تتجلَّى في الواقع التالي: فبينما تصرف أموال كثيرة بسفه على العلاقات العامة المستجدية لرضي الآخرين الأغراب على الأخص من المتحدثين في تلك المؤتمرات، تتعامل الكثير من أنظمة اليسر البترولى ومن رجال الأعمال الذين يدورون في فلكها تتعامل ببخل وقلة دعم لمراكز ومؤسَّسات الدراسات والأبحاث المستقلة التي لا تخضع لتوجيه ولا تقبل أن تكون تابعة لصوت سيِّده. أما المراكز التابعة لهذا النظام أو ذاك فإن المطلوب منها هو تبرير السياسات والاستراتيجيات التي يتبنَّاها النظام. عند ذاك تنتقل عدوى الانتهازية في السياسة إلى مراكز الدراسات والأبحاث.
●●●
وفى الواقع فإنه نادرا ما تضيف استنتاجات وتوصيات مؤتمر إلى ما توصَّل إليه مؤتمر سابق. وليس هذا بمستغرب طالما أن نفس الوجوه تنطُّ من مؤتمر إلى مؤتمر آخر، أذا المطلوب هو الصوت الواحد والنَّغم المتكرٍّر الممل الرَّتيب.
وبالتالي فليس المطلوب هو فكر سياسي حرَّ موضوعي تنتجه مؤسَّسة بحثيَّة هدفها الأساسي توفير دراسات وأبحاث تغنى وتوجٍّه نقاشات السياسات العامة للدولة ولمؤسسات المجتمع، وإنّما المطلوب هو شيء من هذا وشيء من ذاك، لا طعم له ولا رائحة.
لكَّن تلك النظرة المتخلٍّفة إلى موضوع البحوث والدراسات، وذلك التوجُس من الباحثين والمفكرين لن تتغيّر إلا إذا جرى تعديل جذري في طريقة صنع القرار وفى من يأخذ القرار. فإذا كان القرار يتخذ بطريقة ديمقراطية ومن قبل مؤسسات ديمقراطية فإن ما تتوصّل إليه مراكز الدراسات والبحوث سيكون جزءا من حجج وبراهين النقاشات التي تجرى بين مختلف الأطراف. أمَّا إذا كان القرار يأخذه القائد الملهم الأوحد مع مجموعة صغيرة من بطانته المذعورة فإن الحاجة للمراكز ستصبح ليست ذات قيمة. من هنا لا يستطيع الإنسان إدراك الهدف من حمَّى المنافسات العبثيّة على استقطاب أكبر عدد ممكن من مراكز البحوث والدراسات لتجتمع في هذا البلد أو ذاك بينما يقتصر اتخاذ القرار في هذه البلدان على فرد أو بضعة أفراد يعتبرون الباحثين والمفكٍّرين أناسا نظريٍّين وغير عمليٍّين وغير مرتبطين بحقائق الواقع.
دعنا نكون أكثر صراحة ونسأل: أية فائدة من مؤتمرات تبحث وتناقش وتستنتج وتوصى في بلدان يخضع اتخاذ القرار فيها لإملاءات الخارج من دول إمبريالية وشركات عولمية وثقافة سوق سطحية استهلاكية؟
●●●
من هنا فإن الواقع الموضوعي يدعو للاعتقاد بأن سيل تلك المؤتمرات لن يكون أكثر من ممارسة لعلاقات عامة، تظهر هذه الجهة أو تلك وكأنها في قلب هذا العالم ومدركة لتعقيداته. إن فائدتها تنتظر إنتقال الأنظمة والمجتمعات العربية من استبداد السياسة وفساد الاقتصاد والاجتماع الذي تعيشه إلى عالم ممارسات الديمقراطية، حيث المجتمع هو صاحب القرار، حيث تباين وجهات النظر مقبول ومحترم وحيث للبحث والفكر قيمة وقدسية.
هكذا ستنضمُّ مراكز البحوث والدراسات العربية إلى باقي المؤسسات العربية ليقف الجميع في صفوف انتظار طويلة لانبلاج فجر الديمقراطية الحقيقية غير المزيّفة في أرض العرب. وحتى ذلك الحين يا ليت نصف ما يصرف على كرنفالات المؤتمرات يذهب إلى مراكز الدراسات والبحوث لتطويرها وإعداد نفسها لذلك الصبح الموعود، الذي طال انتظاره.