قاسم حسين
وسط العتمة والقمع وتغييب صوت العقل والتسامح، بدأ مولودٌ حيٌّ حرٌّ صغير يترعرع على ضفاف الوعي وصحوة الضمير.
كانت الاستباحة واسعة النطاق وغير مسبوقة. ضحايا بالعشرات، وجرحى بالمئات، وسجناء من شرائح شتى جاوزوا الألف والخمسمئة، من بينهم عشرات النساء، (معلمات وطبيبات وممرضات وتلميذات مدارس وربات بيوت)، وقطع أرزاق ستة آلاف مواطن بحريني. كل هذه التفاصيل وثّقها محمود بسيوني وزملاؤه المحامون الدوليون الأربعة في تقريرهم الشهير.
كانت فرصةً تاريخيةً لبعض الأشخاص والقوى الفاشلة سياسياً لبدء عملية الصعود والتسلق إلى أعلى رتبة ممكنة، قبل أن يعتدل ميزان العدالة. وهكذا سيطرت على المشهد طبائع الاستحواذ وجمع الغنائم، وبدأ تبرير كل شيء، من سجن الأطباء إلى هدم عشرات المساجد.
في المقابل كانت هناك عملية توثيق لكل انتهاك، في فترة تاريخية تميزت بولادة «صحافة المواطن»، المسلح بهاتف نقال يبقيه على اتصال دائم بالعالم ومنظماته الحقوقية الكبرى.
على هامش هذا الحراك الكبير، كان هناك مولود يتخلّق في هدوء، بدأ على مواقع التواصل الاجتماعي، بعدما تم تشطير المجتمع، وإسكات وتخويف كل صوت يعارض هذا التوجه. وهكذا شهدنا انحياز الطبقة المثقفة لأحد الخيارين، التغيير أو الجمود، فسقطت أسماء كبيرة في عالم الشعر والرواية والنقد والأدب، طالما كانت تبشّر بالثورة قبل عقود، لكنها سقطت في الامتحان الأخير، وبعضهم أخذ ينادي بتوسيع دائرة البطش.
على هامش هذا السقوط الأخلاقي الكبير، بدأ المولود الحر يتشكل، من الفئة التي أريد لها أن تكون شاهد زور، وبدأ يتململ ويُخرج يده من القماط. يمكنك أن تخدع مجاميع كبيرة من الناس لفترة، ولكن لا يمكنك أن تقنعها بخلع عقلها وعقالها، ومشاعرها وإنسانيتها، وتجميد ضميرها إلى الأبد. فهؤلاء كان أجدادهم يخرجون معاً في رحلات الغوص، ويلجأون إلى فشت الجارم حين تعصف الرياح، ويرددون أهازيج الغوص على ظهر السفن الباحثة عن اللؤلؤ في مغاصات الخليج. وآباؤهم عملوا معاً في حقول النفط، ينقلهم باص (سالم خطر) من مدنهم وقراهم إلى عوالي، ويتشاركون في غدائهم الذي يحفظونه في (الصفرطاس). أما الأبناء فجلسوا متجاورين على مقاعد الدراسة في المدارس والجامعات. مثل هذا التاريخ المشترك القائم على قيم الأخوة والتسامح والطيبة، من الصعب أن تنسفه وتستبدله بروحٍ من الكراهية والعداء المختلق.
من البداية كانت هناك كتلةٌ صلبةٌ صغيرةٌ تناضل في فضاء الإنترنت بأسماء مستعارة، لتقول رأيها بصراحةٍ فيما يجري. كانت تمثل صوت العقل والتسامح ومحاولة فهم الآخر ونقد الذات. وكانت هناك كاتبةٌ شابةٌ تكتب بصدق فتُهدّد. وكان هناك شابٌ أسمر جهر بصوته فأدخل السجن. وتبعه بالحديث نائبٌ أثقله ما يرين من صمت على قلوب نواب الشعب. وهكذا بدأت ترتفع عشرات الأصوات الواعية في فضاء الإنترنت.
الآن أسترجع الشريط كما يسترجع الحالم تفاصيل رؤياه. في إحدى المسيرات بعد رفع قانون السلامة الوطنية، كنت واقفاً على الرصيف أرقب الآلاف، نساءً ورجالاً، وشباناً وأطفالاً، يزحفون من دوارٍ إلى دوار على شارع البديع. فوجئت بأحدهم يخرج من الصف باتجاهي يحييني ويصافحني بقوة، عرفني باسم عائلته، واسمه على الـ «تويتر». عندما دخلت عليه وقرأت ما يطرح من أفكار تدل على حسّ وطني ووعي فكري متقدم، قلت لنفسي: مازالت البحرين بخير. لقد بدأت الصحوة. كان ذلك قبل عامٍ من الآن.
الولادة كانت طبيعية تماماً، وكانت رد فعل عفوي ينسجم مع الذات والسجايا البحرينية الخالصة، بعد تهرؤ التجمعات السياسية التي ولدت ولادة قيصرية لتبرير أخطاء السياسة والتغطية على خطاياها، في شبكة مصالح ممتدة تحت الأرض كالأنفاق المظلمة. ووصل الانحدار إلى القاع، حين وجدنا بحرينياً يشمت بمصاب بحريني آخر، ويرقص على جراحه وعذاباته، ويطالب بشنقه في نزعة شماتة وتشفٍّ غريبة.
حين يأتي مستقبلاً من يكتب تاريخ هذه المرحلة الكئيبة، يتوقف عند بعض المحطات حيث بدأت تتكشف أوجه الحقيقة. فحين وقف بسيوني في مثل هذه الأيام من العام الماضي، صدم الكثيرون بأن ما كان يسمعه من الإعلام الرسمي لم يكن صحيحاً، وأن ثمانين في المئة مما كانت تقوله المعارضة كان دقيقاً إلى حد بعيد.
الصحوة لا تأتي فجأةً وإنما بالتدريج، فبعد بسيوني اكتشف الكثيرون أن منظمات حقوق الإنسان الدولية والاتحادات العمالية والطبية والتعليمية والصحافية اتخذت موقفاً داعماً للحراك. ولم يكن مهضوماً أن تقف منظمة الأمم المتحدة وعواصم الدول الكبرى الحليفة الموقف نفسه وتطالب بتصحيح ما جرى من أخطاء. كان هناك تساؤل كبير يتردد في الصدور: هل كل العالم الذي وقف ضدنا على خطأ، ومجموعة من المنتفعين وأرباب المصالح الشخصية وصحافيو العملة على صواب؟ كان تساؤلاً جوهرياً يُحدث المزيد من التشققات في جدار الصمت والتكاذب وخداع الذات.
على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث سقطت قبضة الرقابة التقليدية، بدأت تنتشر قصص الفظاعات التي تعرض لها الطواقم الطبية والتمريضية والتعليمية والعمالية والإعلامية والرياضية. وبدأت هذه الشخصيات تحصد تقديراً عالمياً وجوائز في عددٍ من عواصم الغرب، وحصدت صحيفة مستقلة عدة جوائز خلال عام، بينما عجزت الصحف الأخرى عن تحقيق جائزة واحدة حتى في مجال الطبخ.
لقد راهن عشاق الوطن على الوقت وتكشف الحقائق وتنبّه الضمير، فالصحوة قادمة لا ريب فيها وهذه تباشيرها… ولكن أكثرهم لا يعلمون.