د/ علي محمد فخرو
الاستفتاء فى الشمال العراقى موضوع لا يحتمل المجاملة والغمغمات السياسية المترددة الحذرة، كما لا يستدعى المماحكات الصبيانية بشأن الأصول والتاريخ والجغرافيا وأخطاء هذه الجهة أو تلك.
فما يثير المخاوف والتعجب والرفض ليست نتائج الاستفتاء الذى تم فى الشمال العراقى، بمباركة ساطعة متحدية من قبل استخبارات الموساد والقوى الصهيونية العالمية.
فنتائج ذلك الصخب الهستيرى المنظم برعاية صهيو – استعمارية، وتحت رايات النجمة السداسية، ممزوجة بشهوة السلطة والنهب عند هذا السياسى المحلى أو ذاك، كانت منتظرة ومعروفة مسبقا.
ما يحير هو رد الفعل القصير النظر العاجز اللامبالى للغالبية الساحقة من أنظمة الحكم ومؤسسات المجتمع المدنية العربية نحو ذلك الحدث المفجع الخطير فى الحياة العربية.
كنا ننتظر موقفا عربيا واحدا وصوتا رافضا مجلجلا عربيا واحدا، يصدر بإجماع الدول العربية، من خلال كل المؤسسات المشتركة الإقليمية والقومية، وذلك لمساندة الدولة العراقية العضوة فى كل تلك المؤسسات، فى رفضها الدستورى والقانونى والأمنى والسياسى والاقتصادى لنتائج استفتاء مشبوه مسرحى يهيئ لتقسيم العراق ونهب ثرواته البترولية والغازية وإضعافه كدولة عربية مركزية.
فما حدث فى العراق ليس حدثا محليا، وليس حدثا عابرا محصورا فى الشمال العراقى، وليس تصحيحا لممارسات خاطئة من قبل هذا الزعيم العراقى أو ذاك. إنه مقدمة لمؤامـرة صهيو ــ استعمارية كبرى لتمزيق كل قطر عربى بدون استثناء، بدأت بتصريحات من قبل أمثال كيسنجر وعراب الفكر الصهيونى برتراند لفى، ووصلت إلى قمتها بتدريب وتمويل وتسليح ورعاية الميليشيات الإرهابية الجهادية الرافعة لرايات الإسلام زورا وبهتانا، ثم توزيعها على سائر أجزاء وطن العرب لتعيث فيه فسادا وتدميرا عمرانيا وبشريا وحضاريا.
ولذلك فبعض ردود الفعل العربية الخافتة البائسة، التى ترفض أن ترى الصورة الكاملة للوضع العربى المتردى، تدل على أن الفاعلين فى أرض العرب لا يقرأون الأدبيات السياسية الصهيونية واليمينية الأمريكية، ولا يفهمون الإشارات التى ظلت وما زالت تشير إلى حلم جعل العرب هنودا حمرا آخرين يعيشون فى المعسكرات ككائنات للتفرج والشفقة والتسلية.
•••
لا يحتاج الإنسان لمعرفة عظم وفداحة تلك المؤامرة إلا أن يقرأ أو يسمع ما يقال فى كل بلدان المغرب العربى ووادى النيل العربى والمشرق العربى والخليج العربى حتى يعرف أن ما حدث فى العراق ليس إلا لجس النبض ومعرفة حجم ردود الفعل من قبل سلطات الحكم ومؤسسات المجتمع العربى وشبكات التواصل العربية.
فإذا كان رد الفعل ضعيفا وباهتا وجزئيا وصرخات فى فلاة قاحلة فإن الوحش الكاسر سينتقل للهجوم على الضحية التالية، ولن تردعه مناقشات أو تحفظات باهتة من هنا أو هناك.
وكمثال لمقدار العبثية فى قصر النظر إلى هذا الأمر دعنا نشير إلى ما كان يجب أن يكون عليه الموقف العربى الخليجى. فالعراق كان ولا يزال محسوبا على أنه بالغ الأهمية فى التركيبة الاستراتيجية القومية العروبية للخليج العربى.
إن ضعفه هو ضعف للتوازنات فى الخليج، وقوته هى تعديل للتوازنات السياسية والأمنية والاقتصادية فى الخليج. ولذلك فقد كان منتظرا أن يقف مجلس التعاون بصوت واحد، لا بأصوات متفاوتة، ضد الاستفتاء ونتائجه، ومع وحدة دولة العراق الشقيق المنهكة بمحاربة الإرهاب الجهادى من جهة والخروج من تحت عباءة التدخلات الإقليمية والصهيونية والأمريكية من جهة أخرى.
لقد كانت فرصة لأن يشعر شعب العراق بأن إخوته فى الخليج لن يخذلوه فى مواجهة محنته الجديدة، كما خذله الكثيرون إبِّان الاجتياح الأمريكى الذى بُنى على الكذب والتلفيق والحقارات الاستخبارية، والذى أدت تدخلاته الاستعمارية الطامعة الفاسدة فى أمور ذلك البلد العربى إلى الدمار العمرانى والبشرى الهائل وإلى فتح الأبواب أمام معاناته من قبل بربرية داعش وأمها وأخواتها والمتعاطفين المخدوعين معها.
لكن ذلك الموقف القومى الأخوى لم نلمسه. ثم يستغرب المسئولون الخليجيون لماذا يتصاعد النفوذ الإقليمى غير العربى، بينما يبهت ويتلاشى النفوذ العربى الخليجى وغير الخليجى، القائم على الأخوة والعروبة والمصير المشترك.
•••
فى المستقبل، عندما يصل الدور لدول الخليج العربى لتفتيتها وإرجاعها إلى عصر الدويلات القبلية الهامشية السقيمة الفقيرة، هل ينتظر من العراق آنذاك، بعد أن يتعافى، وسيتعافى، أن يلعب دوره القومى المعتاد ضد من يسعى إلى تمزيقها وتقسيمها فيما بين القبائل والمذاهب؟
لنؤكد من جديد بأننا مع الحقوق الإنسانية الكاملة والمواطنة المتساوية والنصيب العادل فى الثروات المادية والمعنوية للأخوة الأكراد. لكننا نؤمن بأن أربيل هى ملك شعب العراق كله، مثلما أن البصرة أو بغداد أو كربلاء هى الأخرى ملك لكل شعب العراق، بما فيه الإخوة الأكراد.
وبالتالى فلا الأخلاق ولا المنطق ولا إيماننا بوحدة هذه الأمة العربية وهذا الوطن العربى يسمحون لنا بقبول تقسيم أو تجزأة أى قطر عربى.
فى كل صباح، عندما أنهض من فراش نومى، يلح علىّ سؤال لا أستطيع مقاومة إلحاحه وسيطرته على عقلى ووجدانى.
أسأل نفسى: هل ما زال فى مجتمعات العرب عقل يدقق ويريد، أو إحساس بالكرامة المسلوبة، أو قلق على المستقبل الملىء بالإخطار ــ أو شعور بالخوف الغريزى عند تكالب الأعداء وإحن الأزمنة؟
فما جرى فى فلسطين المحتلة وجنوب السودان وشمال العراق واليمن وسوريا وليبيا والصومال، وما سيجرى فى كل أرض العرب، لا يمكن إلا أن يشير إلى أجوبة مرعبة لتلك الأسئلة اليائسة.
بكل ألم أقول بأنه ما عاد هناك أمل إلا فى أطفال وشباب وشابات ونساء العرب، بعد أن مزق تخبط رجال العرب السياسى، جيلا بعد جيل، عبر القرون الطويلة، أحلام وآمال وتطلعات ونضالات وتضحيات أمة بكاملها.