ليس ربيعاً عربياً
كل ما اخضرَّ وأزهر على ضريح المقاومة العربية
حسن خليل غريب في 1/ 3/ 2012
من اللافت للنظر أن الساحة الإعلامية، من محيط الأمركة والغربنة إلى محيط العربنة، قد خلت من كل ما يمت للمقاومة العربية بصلة. وامتلأت صفحات الأخبار بوعود قادمة وتبشير بربيع عربي قادم سيقضي على كل معالم الخريف العربي. وابشروا يا عرب فقد ولَّى الزمن الذي كان يجوع فيه عربي، وكانت تتألم فيه أم عربية أمام منظر أطفالها المرضى، وأمام عائلة عربية اعتُقل أحد أفرادها ويُعذَّب بسياط جلاديه من عملاء الأنظمة الرسمية. وابشروا لأن الثور الأميركي عائد إليكم من دون قرون تناطحكم، بل تحوَّل إلى ثور تعلَّم لغة الحوار، بل تحوَّل إلى ثور لن يأكل أزهار حدائقكم وسنابل حقولكم بعد الآن، بل سوف يرويها ويتعهدها بالعناية حتى تتحول إلى ربيع ستقطفون جناه في صيف لن يكون لاهباً، بل في صيف تتعادل الحرارة والبرودة فيه إلى الدرجة التي ستشعرون فيها بأنكم في جنان الله على الأرض.
ابشروا يا عرب، صرخة أعلنها أوباما، ولاقت صداها عند كاميرون وساركوزي، و…و…
ابشروا يا عرب فالخلاص قادم على أيدي زعماء العالم سواءٌ أتوا من الغرب أو من الشرق أو من دول الإقليم، ولن أستثني منهم أحداً، لقد ولَّى عهد العبودية للأنظمة الرسمية القمعية، ودخلتم في عصر الجماهير.
ابشروا فالنعيم قادم بسرعة تفوق سرعة صواريخ الأطلسي، وسرعة أحلام كل أصحاب النزعات الإمبراطورية من الذين سيعيدون بناء أحلامهم الإيديولوجية على حساب أرضنا وعرضنا وثرواتنا ووحدتنا المجتمعية والوطنية والقومية، أو من الذين يحلمون بتأسيس أنظمة ثيوقراطية تبني حدودها على دم وجماجم كل من لا يؤمن بمقدساتها.
وابشروا لأنه لن يبقى لكم إلاَّ كل نظام امتلأت جيوب أوليائه بنفط العرب ومشتقاته تحت حماية الأطلسي وأسنَّة حرابه. ولن يبقى بعد الآن نظام إلاَّ أنظمة نكهتها نفطية ذات لكنة أميركية، يعوم أولياؤها في خمرة المواخير الغربية ومنتجعاتها التي تعيد الشباب للذين هرموا منهم، وتصنِّع أجيالهم الشابة التي ستخلفهم على كراسي الملوكية والإمارة بنكهة ديموقراطية أميركية مميَّزة لا يعرف طعمها إلاَّ فقراء يعومون على آبار من النفط بينما هم يعيشون في ظلام دامس، وجوع يؤلم معداتهم، وجهل يعفيهم من عناء التفكير، وكبت يعفيهم من عناء الاحتجاج والتظاهر.
وابشروا لأنه لن يبقى إلاَّ أنظمة تعوم على بحار من دمائكم يقدمه بالنيابة عنكم، أصحاب المشاريع (الإلهية) الوهمية، أضحية لما يعتقدون أنه المقدس الوحيد الذي سيحكم العالم. أنظمة تفرِّق ولا توحِّد، تقتل باسم آلهتها وتنشر منهج القتل المقدَّس الذي لن يدخل ممارسوه إلى النار، وسيكون بديلاً لوحدتكم وتآخيكم والسلم الأهلي الذي كان مبدأكم في التعايش والمواطنة.
سلسلة الأكاذيب المُرَّة طويلة. ومرارتها أن ملفِّقيها يضحكون على ذقوننا، والأَمرُّ منها أننا نصدِّقهم إلى الدرجة التي تحتل فيها أكاذيبهم عقول الجماهير بسلاسة وهدوء، والأشد مرارة أنها تغسل أدمغة بعض المثقفين ممن امتهنوا النظر إلى آلامنا بسطحية وانفعال.
سلسلة طويلة من الأكاذيب التي لم تدع في عقولنا ذرة من المقدرة على الكلام والكتابة عنها بهدوء، فآن لنا أن نصرخ ونحذِّر من كل كلام معسول، ظاهره حق وباطنه باطل. لذا لم نجد ما نرد به إلاَّ بكلام نفرِّغ فيه غضبنا. ولم نجد أسلوباً ننمق به صرختنا إلاَّ الكلمة الغاضبة التي ظاهرها منفعل وباطنها هادئ وموضوعي.
وإذا خابت استنتاجاتنا السلبية، وساد الربيع العربي فعلاً، فلن نكون إلاَّ أمام كرسي الاعتراف، لنقول أمام الكهنة أننا أخطأنا. ولكن، قبل أن يأتي ذلك اليوم دعونا نتساءل: منذ سنة أو أكثر بقليل، أي منذ انبهرنا بأول غيث عربي أمطر علينا من تونس، أين أصبح موقع المقاومة العربية في الإعلام؟
سؤالٌ لا بُدَّ من أنه جدير بالإجابة عليه، لأنه ليس هامشياً، كما أنه ليس تفصيلياً، بل هو سؤال أساسي من بين العديد من الأسئلة الأخرى، إذا أهمله المثقفون العرب فكأنهم يشطبون بأقلامهم وعقولهم أهم ظاهرة في التاريخ العربي المعاصر. فلماذا؟
تسابق بعض من زعموا أنهم في خندق الحراك الشعبي العربي ووعدوا بتقديم رأس المقاومة العربية من جهة، ومن جهة أخرى وعدوا أن يقدموا إلى (إسرائيل) (سلاماً) طالما كان من أهم أهداف الصهيونية وحليفتها الإمبريالية العالمية. ونحن نحسب أن من أهم أهداف الدعم الأطلسي لما يسمونه (ربيعاً عربياً) هو الحصول على رأس المقاومة الشعبية العربية، وهي المقاومة التي عجزوا عن إيقافها، أو على الأقل عجزوا عن احتوائها، وظلَّت تمثل عامل الإخلال بالتوازن بالقوى بعد أن ضمنوا شروط الإخلال بالتوازن في القوى النظامية. وهم يتصرفون على قاعدة (اللهم اكفني شر المقاومة الشعبية أما الحرب النظامية فأنا كفيلة بها).
كان دافع من وسم تاريخنا المعاصر بتهمة الهزيمة، هو أن النظام العربي الرسمي لم يكن جاداً بتوفير مستلزمات النصر على أعداء الأمة العربية. وإذا كانت الموضوعية أسلوبنا فعلينا أن نستذكر أن شروط النصر النظامي الرسمي لا يمكن أن يحصل من دون أسلحة نظامية، ومصادر تلك الأسلحة هي مصانع أعداء الأمة، ولأن النصر الذي كان على الأنظمة أن تحرزه سيكون على أولئك الأعداء وليس غيرهم، لذلك كان من غير المنطقي أن يزود العدو عدوه بوسائل سيستخدمها ضده.
ولما ابتكرت الأمة عوامل النصر، وصنَّعته في مصانعها، وأصبح موفوراً لها، ولم تكن تلك الوسائل إلاَّ مُصنَّعةً في مصانع الدفاع عن الكرامة بما تعنيه حماية الأرض والعرض، ومواجهة كل من يتعرَّض لهما بسوء، فكانت المقاومة الشعبية هي تلك الوسيلة. ولما أنجبت المقاومة النصر تلو النصر، شكَّلت ربيعاً عربياً دائماً. ولما أزهرت حقول الأمة العربية، وراحت فصول العنجهية الغربية تذبل فصلاً تلو فصل نتيجة الفعل العربي المقاوم، خطَّط الغرب للقضاء عليها.
لقد استعصت المقاومة على كل وسائل اجتثاثها، بداية من اتفاقية كامب ديفيد مروراً باتفاقية أوسلو ووادي عربة، وانتهاء بلبنان، وكانت المقاومة العراقية هي الأشد ضراوة استراتيجة في مواجهة مشروع أمركة العالم، ولما عجزت الإدارة الأميركية عن إيقافها على أرض العراق، كان لا بُدَّ من الالتفاف عليها من خارجه، وحكاية استراتيجية الالتفاف طويلة لن يستطيع مقال أن يعبِّر عنها.
والقصد من وراء كل ذلك، نرى أن المبشِّرين من الخارج بـ(ربيع عربي)، يحمل الغلال الوفيرة للجائعين، وشلالات المياه العذبة للعطاشى، وواحات الحرية للمقموعين، هم كَذَبّةٌ وفرِّيسون، لأن الجوع والعطش والقمع كانت تمارسه الأنظمة الرسمية منذ عقود طويلة تحت رعاية وسكوت الخارج ذاته الذي آلمه اليوم صراخ الجائعين والعطاشى والمقموعين.
وإذا كنا من القارئين جيداً لأحداث التاريخ القريب، فإنه علينا أن نقرأ منه صفحات التدخل الخارجي الذي ابتدأ منذ أن ارتفعت لاء البعث لتقسيم فلسطين والدعوة لتحريرها بـ(الكفاح الشعبي المسلَّح)، ولاء الناصرية التي أسقطت النظام الملكي لأنه كان أحد المتآمرين على قضية فلسطين. ومنذ أن انطلقت أول رصاصة فلسطينية تعلن بدء فصل ربيع العرب المقاوم. ومنذ تمثَّل اللبنانيون تجربة المقاومة وهضموها ومارسوها وانتصروا فيها. ولم يكن آخرها المقاومة العراقية، لأنها الحلقة الأقوى في سلسلة الربيع العربي. بل يريد الخارج، يتقدمه حلف الأطلسي، أن يقضي على أهم عوامل هذا الربيع الذي ملأ حقول الأمة انتصارات، وألحق الهزائم بأعتى جيوش العالم قوة وعنجهية.
ومن أجل أن يوفِّر على نفسه الخسائر الجسيمة راح الغرب، متسللاً تحت غطاء شرعية الحراك الشعبي العربي، يساعد على استنزاف طاقات الشعب العربي بحروب داخلية. تارة يعزِّز حروب الطوائف على نار حامية كما هو حاصل في العراق وفي اليمن، وعلى نار باردة كما حصل في لبنان؛ وتارة أخرى بين الشعب والأنظمة تحت شعارات أكاذيب نشر الديموقراطية وإسقاط أنظمة القمع. ومن أجل ذلك فقد استعار مفاهيم حروب العصابات المحمية بقراراته السياسية تارة وبصواريخه المدمرة تارة أخرى. تلك الحروب التي تشنُّها عصابات مدرَّبة لاستنزاف طاقات الأنظمة لإسقاطها من أجل تعميم الديموقراطية كما يزعم مؤيدوهم. وكأنَّ بحروب العصابات على الطريقة الأميركية فصل من فصول تشريع ديموقراطية غريبة عن مفاهيمنا، وهي تشريع حق كل أقلية في أن تُسقط النظام الذي لا يعجبها بحرب عصابات تدمِّر مرافئ الدولة ومؤسساتها.
والغرب الذي يكاد قلبه ينفطر ألماً على حقوق الشعب العربي، لو أراد نشر الديموقراطية لكان الأولى به أن يبدأ أولاً بأنظمة غير تلك التي بدأ بها، ولكنه لم يفعلها، ولن يفعلها، طالما أن الأنظمة المسكوت عنها تذعن لأوامره وإملاءاته. فتلك الأنظمة خاضعة راكعة خاشعة في حضرة الإمبراطور الذي يلوِّح لها بمصير شبيه بمصير الأنظمة التي أسهم بإسقاطها، أو تلك التي تنتظر الإسقاط تحت حماية المظلة الأطلسية.
من حيث الأهداف الحقيقية لما يزعم الغرب أنه ربيع عربي، بالإضافة إلى أهدافه الثابتة بتوفير أمن النفط و(إسرائيل) والتجارة، هو تجريد العرب من فكر الوحدة القومية، ومن عوامل ربيعهم الحقيقي في المقاومة الشعبية. لأنه لو ظلَّ عامل المقاومة حيَّاً لكان ذلك يعني تهديد أمن الثوابت الثلاث: أمن النفط، وأمن (إسرائيل)، والأمن التجاري.
واستناداً إليه لن نستغرب بعد الآن الغياب الكلي للمقاومة العربية عن إعلام الأمركة والغربنة والعربنة. والأكثر أسفاً هو أن الحراك الشعبي العربي لم يفطن إلى هدف حصار المقاومة العربية فحسب، بل أعلن بعض المشاركين فيه أيضاً أن تسليم رأس المقاومة العربية هو من أهم أهدافهم بعد إسقاط الأنظمة. فالمواطن العربي في ظل كثافة الإعلام الذي يروِّج لـ(الربيع العربي) نسي أن هناك مقاومة عربية في العراق وفلسطين. وقد يكون هذا التجاهل مقصوداً. بل هو مقصود بالفعل. أليس تحويل الأنظار عن دور المقاومة وتأثيرها في إنبات الربيع العربي، وتوجيهه نحو إسقاط بعض الأنظمة الرسمية القمعية، إلاَّ تحويل مدروس ومقصود؟
ليس دور الخارج أن يُسقط الأنظمة الرسمية، بل هو دور الشعوب أولاً وأخيراً. أليس مبدأ تقرير المصير مبدأً أممياً؟ أليس اختيار الأنظمة وإسقاطها هو حق للشعوب؟
أليس في تدخل الخارج، لإسقاط الأنظمة نيابة عن الشعوب، الكثير من الشبهات والتهم؟
أَلَم نعي حتى الآن أن في تدخل الأطلسيين تحديداً إلاَّ أكثر من تهمة ومن شُبهة؟
أَلَم نتساءل أن الأطلسيين لا يدعموا معارضة محلية إلاَّ لأغراض عابرة لحقوق الشعوب؟
أَلَم نتساءل عن السر الذي يربط الوطنيين الحريصين على وطنهم مع الأعداء الذين لا همَّ لهم إلاَّ احتواء هذه الأوطان واحتلالها والهيمنة على ثرواتها وقراراتها؟
أَلَم نتساءل يوماً عن مرحلة ما بعد الخروج الطوعي من العراق كما اعتبره أوباما؟
أَلَم نتساءل عن سبب إعداد قوات الأطلسي للخروج من أفغانستان؟
أَلَم نتساءل عن سر الحرص الذي أبدته بعض أنظمة الخليج العربي لاحتواء بعض فصائل المقاومة الفلسطينية تحت مظلة أقل ما يُقال فيها أنها غارقة حتى الأذنين في العمالة لأميركا؟
وهل علينا إلاَّ أن نتساءل عن الدور الذي تلعبه تلك الأنظمة المسكوت عنها في صناعة الربيع العربي؟
أهي مصالحة إعادة إحياء الربيع العربي المقاوم، أم أنها مصالحة كل همها أن تقرأ الفاتحة على ضريح المقاومة العربية في فلسطين؟
أما بالنسبة للمقاومة العراقية فالمطلوب رأسها أولاً، لأنها هي التي قطعت رأس الاحتلال الأم في العراق. وقطع رأس المقاومة العراقية كما هو ظاهر يتم بتجفيف الممرات اللوجستية، جغرافياً وسياسياً وإعلامياً، على قلتها.
استناداً إليه، ومع تأييدنا ومشاركتنا المطلقة لأهداف الحراك الشعبي العربي، نلفت النظر إلى أن أي حراك يتجاهل الربيع العربي الماثل بالمقاومة العربية وفي الطليعة منها المقاومة الوطنية العراقية، سيبقى ناقصاً. وإن المطالبة برغيف الخبز وحبة الدواء وحرية القول والتظاهر يجب أن لا يكون ثمنها التضييق على المقاومة العربية والقضاء عليها. ومن هنا نقول: ليس ربيعاً عربياً كل ما اخضرَّ وأزهر على ضريح المقاومة العربية.