تتكافأ حجج السلطة والمعارضة في سوريا في ميزان الإقناع، أو قل – للدقة – في ميزان عدم الإقناع . من يستمع للواحد منهما دون الآخر يقتنع بحجته، وقد ينحاز إليه . أما إن أصغى إلى الاثنين معاً، فقد يتولاه الذهول من اتساع رقعة المفارقات في رواية كل فريق منهما عن الأحداث الجارية في البلد . السماع بأذنين، والنظر بعينين، أفضل في مثل هذه الحال وأدعى إلى الاطمئنان إلى سلامة استقبال الإفادات من مصادرها، أو أدعى – على الأقل – إلى الاطمئنان إلى أن نسبة الخطأ في ذلك الاستقبال ستكون أقل .
لنقرأ عيّنة سريعة من تلك الحجج المتكافئة في تناقضاتها والمفارقات:
تقول السلطة إنها لا ترى في الأحداث الدامية غير مسلحين يقتلون رجال الأمن والجنود، ويحرقون مؤسسات الدولة، ويخرّبون الممتلكات العامة، ويعبثون بالأمن العام، وينصبون حواجز التفتيش داخل المدن وعلى الطرق، ويخطفون الناس على الهوية، ويمثّلون بجثث قتلاهم . . .، ثم تقدم ذلك بالصور على شاشة التلفزيون الرسمي مقرونة بأشرطة اعترافات لبعض الموقوفين في المواجهات . وتقول المعارضة إنه لا وجود لمسلحين إلا في خيال السلطة، وإن المسلحين الوحيدين الذين يمارسون التقتيل اليومي والإرهاب والتمثيل بالجثث هم رجال الأمن والجنود و”شبّيحة” النظام، وإن التظاهرات سلمية ونظيفة ولا وجود لقطعة سلاح فيها .
ثم تعزّز ذلك ببث مشاهد من المواجهات الدموية، ومن إطلاق الرصاص، على الشبكة العنكبوتية، فتنقلها الفضائيات عنها على نحو نقْلها إفادات “شهود العيان” .
هي، إذاً، معركة الخبر والصورة في الروايتين، تحاك حياكة متقنة في حين، لكن خروقاً تنتاب نسيجها في أحيان أخرى . من يصدّق رواية السلطة عن أحداث ليس فيها إلا مسلحون فحسب؟ قد يكون هؤلاء بالعشرات والمئات، ولكن ماذا عن مئات آلاف المتظاهرين: هل خرج الشعب كله في انتفاضة مسلحة؟ هي نفسها لا تصدّق روايتها وإلا لماذا تراها تتحدث عن إصلاحات سياسية وعن حوار وطني إن لم تكن تعترف ضمناً أنها تخاطب بهذا مطالب سياسية مدنية تحاول استيعابها! ثم من يصدّق رواية المعارضين عن ثورة شعبية سلمية ونظيفة لا سلاح فيها إلا سلاح السلطة؟ هل يقتل النظام جنوده ويمثّل بجثثهم، ويحرق مقار الأمن والمحافظات، ويدمر أنابيب النفط وخطوط السكة الحديدية، لمجرد أن يُوهِمَ العالم بأن هناك جماعات مسلحة يبرر بوجودها خياراته الأمنية في مواجهة المظاهرات؟ على خيال المرء أن يكون خيالاً فوق – سينمائي أو فوق – هوليوودي حتى يصدّق روايتين على طرفين قصيين متقابلين تضيع في تضارُبهما الحقيقة .
هذه واحدة، الثانية أن المفارقة تسكن الروايتين الرسمية والمعارضة عن صلة العامل الخارجي بما يجري في سوريا . تصرّ السلطة على تفسير ما يجري من مظاهرات في البلاد، منذ ستة أشهر، بردّه إلى “مؤامرة خارجية” يهدف حائكوها إلى زعزعة الاستقرار في سوريا لمعاقبتها على مواقفها من السياسات الغربية في المنطقة، وعلى دعمها المقاومة في لبنان وفلسطين . لا معنى لهذه الرواية سوى أن مئات الآلاف من المتظاهرين السوريين إمّا عملاء للأجنبي، وإما أدوات له يحركها من وراء ستار! والأهم من إيحائها الضمنيّ هذا أنها لا تعترف لهؤلاء بشرعية مطالبهم في الحرية والديمقراطية، لأنها لا تعترف بأن ثمة مشكلات داخلية تدعو الناس إلى التظاهر . لا تختلف رواية المعارضين كثيراً في هذا الباب: تعكس زاوية النظر إلى ما يجري فتصرّ على أن فرضية الخارج فرضية خيالية في عقل النظام، ومجرد تعلّة لتبرير رفضه مطالب الشعب ومواجهته إياها بالرصاص، وأن الحراك الجماهيري في المدن والبلدات وتحركات المعارضين في الخارج . . . جميعها محكوم بجدول أعمال سياسي وطني مستقل . . إلخ . لكن الرواية هذه تتجاهل الأنوف الفرنسية والتركية والأمريكية المحشورة في الشأن السوري، وفي مؤتمرات المعارضة في باريس وأنطاليا واسطنبول، بما في ذلك محاولات جمعها على طاولة واحدة في هذه العاصمة أو تلك، و”التنسيق” معها للضغط على النظام . كما تتجاهل مطالبات بعضها مجلس الأمن بإصدار قرارات بالتدخل، وقد وصل صداها إلى مظاهرات مطالبة ب “الحماية الدولية” .
الثالثة أن السلطة توحي إلى السوريين وإلى العالم أنها تميّز في سلوكها تجاه المظاهرات بين ما هو منها مشروع وما ليس منها بمشروع، وأنها إذ تواجه الثانية بحزمٍ أمني، ترد على الأولى بالتجاوب السياسي وبالدعوة إلى الحوار الوطني . أما المعارضون فيتهمونها بانتهاج سياسة قمعية واحدة، وبإسقاط أي خيار سياسي آخر غير إسقاط النظام الذي يفرضه عليهم رفضها مطالب الإصلاح السياسي . من يصدّق أن “حوار المحافظات” الذي أطلقته السلطة، حوار وطني؟ أين مضمونه الوطني الشامل والسياسي؟ أليس هو يتعامل مع مطالب الشعب وكأنها مطالب اجتماعية موضعية؟ ثم من يصدّق أن شعار “إسقاط النظام” تبلور بعد أن انسدّ الأفق أمام الإصلاحات السياسية ورَفَضَ النظام التجاوب مع مطالب الإصلاح؟ أين نضع إجراءات مثل إلغاء قانون الطوارئ، وإلغاء محاكم أمن الدولة، ومنح الجنسية للمواطنين الأكراد، وإقرار قانون الأحزاب والصحافة، وتشكيل لجنة صياغة الدستور؟ هل تدخل هذه في خانة إغلاق أفق الإصلاح السياسي والحوار الوطني حوله؟! وإذا كانت هذه لا تكفي، فليُنَاضَل من أجل الاستزادة من طريق حوار وطني أو من طريق نضالٍ شعبي تحت سقف الإصلاح السياسي الذي تسمح به موازين القوى الداخلية، ولا ينتظر فيه الشعب من يتدخل من خارج لتغيير نظامه .
نحن أمام مضاربة أيديولوجية بامتياز بين فريقين لا يقولان كل الحقيقة، وإنما بعضها الذي يصب في رصيد راويتيْهما . ليس في المشهد ملائكة وشياطين، ثمة مصالح تتضارب، ورهانات تتنازع . قطعاً المسؤولية ليست متكافئة بين القوتين في الأدوات، لكن ذلك لا يمنع من أن تكون متكافئة في مفردات السياسة وأخلاقها .