لا يحتاج المرء إلى دليل، من العقل أو من الواقع، على أن الفجوة تزيد اتساعاً بين خطاب الوحدة (العربية) والواقع اليومي القائم بحقائقه السياسية والاقتصادية والثقافية الانقسامية القاسية، إذْ أمام مفاعيل الانقسام الذي يُقسّم البلاد العربية إلى جزر معزولة ومنفصل بعضها عن بعض، تبدو فكرة الوحدة – وقد كانت قبل عقود قليلة على جدول أعمال السياسة والتنفيذ – أشبه ما تكون بالطوبى الجميلة، تشبه أية طوبى أخرى مثل العدالة الكاملة في الأرض، أو السَّلام النهائي الذي يُنْهي ظاهرة الحرب بين البشر، أو الاعتراف المتبادل – الحقيقيّ لا اللفظي – بين الأديان التوحيدية الثلاثة. هي بهذا المآل، انتقلت من مشروع سياسيّ كان قابلاً للتحقيق على نحوٍ من الأنحاء، تحمله حركة اجتماعية – سياسية، مثل الحركة القومية، أو نخبة سياسية في السلطة مثل النخبة الناصرية، أو حتى نظام إقليمي للتعاون مثل جامعة الدول العربية.. إلى مجرّد إيديولوجيا يردّدها نشطاء سياسيون ودعاة حركيّون هَدَّهُم التعب وضاقت بهم العزلة عن الجمهور.
ليس مقْصِدُنا، في هذه المقالة، أن نقف بالتحليل والتعليل على أسباب هذا التحوّل الدراماتيكي في فكرة الوحدة، وتراجُع طاقتها الإقناعية والتعبوية في المجتمع، فقد تناولنا ذلك في مناسبات أخرى، وإنّما يَعْنينا أن نقف على بعض من المفارقات الصارخة التي ينطوي عليها خطاب دعاة الوحدة العربية من القوميين أمس واليوم.
وما تَعْنيه المفارقات تلك من دلالات ليس أقلّها أهمية أن المطالبين بالوحدة لا يقدّمون لها ما به تتحقق ولو جزئيّاً، بل لا يقدّمون من أنفسهم – ومن بيئاتهم التي يعملون فيها – دليلاً على أن مطالباتهم بها صادقة وذات قدرة على الخروج من نطاق اللفظ (ترتيل المبادئ) إلى الكينونة المادية ولو في الحدود الرمزية.
يؤاخذ دعاةُ الوحدة النخب الحاكمة العربية على إبائها نهج سياسات التعاون الاقتصادي، والتنسيق السياسي في ما بينها، وتمسُّكها بانغلاقها القطري، وبعلاقات عمودية مع القوى الاقتصادية الدولية بدلاً من علاقات أفقية عربية بينية، محملين سياساتها المسؤولية عن تدمير شروط الاندماج الاقتصادي التي لا محيد عنها نحو توفير مقدمات الوحدة. وليس لمنصفٍ أن يَجْحد حقيقة صِحَّة هذا التشخيص للوضع القائم في السياسات العربية الرسمية وما يؤدي إليه من تمزيق للأواصر وتفكيك للعرى الموروثة، على أن الصورة لا تكتمل بالاكتفاء برواية دعاة الوحدة فقط، وإنما بمطالعة سياساتهم هم أنفسهم وقياس مدى انسجامها مع ما يدعون إليه ويطالبون به.
وللمرء، في هذا المعرض، أن يسأل دعاة الوحدة عمّا فعلوه حتى الآن لتوحيد صفوفهم ورتْق فتوقهم التنظيمية والفكرية والسياسية، ليقدّموا لغيرهم المثال على أن وحدة الرأي والإرادة والأداة ممكنة وليست مستحيلة. والحال إن هؤلاء في فُرقَةٍ من أمرهم وشِقَاق لا يُضاهيه في الحدة شقاق الأنظمة وفُرقَتها. ولستُ أقصد، هنا، ما بين القوميين والإسلاميين والليبراليين واليساريين، في الوطن العربي، من خلافات داحس والغبراء في كل شيء: من شؤون السياسة والاجتماع والثقافة والمستقبل، وإنما أقصد ما بين القوميين أنفسهم من خلافات تبلغ حدّتها درجة الإنكار المتبادل، فلم يعد لهؤلاء ما يجتمعون عليه سوى الشعارات العامة التي لا تعني شيئاً، ولا تصنع شيئاً، أحزابهم مقسمة ومتخاصمة، ولا برنامج سياسياً يجمعها، والحزب الواحد منها يبدأ حزباً ثم يصير أحزاباً (وآخرها ما حدث للحزب الناصري في مصر من دون أن نذكر ما هو في لبنان منذ أربعين عاماً، وانقسامات البعثيين…)، إن حال التشرذم التنظيمي والتنازع السياسي، التي يرزحون فيها، لا تقدّم المثال الطيب عن جهة تنادي بالوحدة، فيما أوضاعها في غاية الانقسام والتجزئة. إنها مفارقة صارخة لا تُفْقد لوحدويين قوة الحجَّة فحسب، وإنما ترفع الحرج عن النخب الحاكمة غير الوحدوية.
على أن مفارقة ثانية تفرض نفسها في هذا المجال، يمكن التسليم مع الوحدويين بأن الأنظمة العربية القائمة ليست وحدوية أو قومية في الغالب الأعمّ منها، وهي، في كلّ حال، لا تدَّعي ذلك. ومع هذا، هل يَسَع الوحدويين أن يُنْكروا أن بعضاً من سياساتها يحافظ على الحدّ الأدنى من أواصر الصلة – حتى لا نقول الوحدة – بين العرب: دولاً ومجتمعات؟ ذلك ما نَلْحَظه مثلاً، في علاقات التبادل الاقتصادي والتجاريّ – الثنائي أو الإقليمي – بينها وفي مشروعات الاستثمار البيني لدى بعضها، والعلاقات هذه تصل – أحياناً – إلى حدود تكوين منطقة اندماج اقتصادي كما في حالة بلدان الخليج العربي اليوم، ثم إن ذلك ما نلحظه، أيضاً، في الصور المختلفة من التنسيق السياسي بينها في قضايا عدّة مشتركة ليس أقلّها الموقف من القضية الفلسطينية. وليس لأحدٍ منّا أن يضخّم من حجم هذه الصلات الرمزية التعاونية والتبادلية بين الدول العربية فيحسبها بشائر وحدة، ولكن ليس له – في الوقت عينه – أن يشيح عنها النظر فيتجاهلها كليةً مردّداً عموميات موروثة عن خطاب إيديولوجيّ بامتياز هو خطاب التحبيط والتيئيس من أية إمكانية لتحقيق الاندماج العربي التدريجي.
المفارقة هنا: النخب الحاكمة ليست نخباً سياسية قومية أو تنتمي إلى التيار القومي، ومع ذلك في بعض سياساتها القليل ممّا يوفّر فرص تمتين أواصر الصلة العربية – العربية، أمّا دعاةُ الوحدة، القوميون، فلا يكادون يعرفون عن بعضهم بعضاً إلاّ القليل العام، ولا يكاد المصريُّ منهم يعرف شيئاً عن الجزائر أو موريتانيا، أو أن يعرف اللبناني والسوريّ شيئاً عن السودان أو تونس، أو أن يعرف العراقي شيئاً عن اليمن والمغرب.. إلاّ من رحم ربُك، هذا من دون أن نتحدث عن استغراقه في الشأن الداخلي إلى حدودٍ لا يلتفت فيها إلى محيطه العربي إلاّ متى كانت هناك أزمة كبيرة كالحرب على العراق أو احتلاله، أو الحرب الصهيونية على لبنان وغزة، أو انتفاضتيْ الجزائر وتونس الجاريتين.