أ. معن بشور
الأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي
كتب أ. معن بشور عن الفقيد الأستاذ سليمان العيسى، ونشر مقتطفات منه في صحيفة السفير اللبنانية يوم الاثنين 12/8/2013.
كم كانت سعادتي كبيرة حين التقيت المرة الأولى في اواسط الثمانينات بالشاعر الكبير سليمان العيسى في مجلس ثقافي راق من مجالس رئيس جامعة صنعاء آنذاك، الشاعر والأديب والمفكر البارز الصديق الكبير الدكتور عبد العزيز المقالح، فقد نشأنا ونحن فتية نحفظ قصائده القومية الملتهبة، ونجعل من بعض ابياتها هتافات لمظاهراتنا، كقوله من "المحيط الهادر الى الخليج الثائر لبيك عبد الناصر"، بل ونقبل على شراء دوواينه، ونتسابق على القاء شعره في المسابقات المدرسية التي كانت دارجة آنذاك في مدرستي" الثانوية العامة" (I.C) برعاية الأدبيين الراحلين موسى سليمان والفرد خوري.
كان "ابو معن" يقيم مع زوجته الأديبة الدكتورة ملك الابيض في صنعاء، هي تدرّس في جامعاتها وهو غارق في الكتابة للاطفال، شعراً ونثراً، اناشيد وحكايات، وهو ما أثار استغرابي وانا أتساءل بيني وبين نفسي ما الذي دفع بشاعرنا الكبير الى هاتين "الهجرتين"، هجرة الى اليمن… وهجرة الى الطفولة…
لاحظ الشاعر الحاد الذكاء، الحاد القسمات، الحاد النظرات، الحاد الكلمات، انني فريسة سؤال قلق أكتمه خوفاً من الإحراج، فضحك قائلاً تريد ان تسألني، كما كثيرون، "لماذا اليمن… ولماذا الطفولة" واجيبك باختصار "انه الحنين الى المهد… الى البدايات، أليست بدايتنا كعرب جاءت من اليمن، وأليست بدايتنا كبشر تأتي من الطفولة. اذاً انه المهد… مهد الزمان هو الذي يجيبك على سؤالك المكتوم".
شعرت به، وهو يتدفق في حديثه الي، وكأنه يكتب اجمل قصائده، بل كأنه يهديني آخر ما صدر له من دواوين، او يبوح لي بسرّ اسراره… وهو في كل هذا يضيء حوله كما الفراشة بين الازهار، يشعّ كما الشمعة في ظلام دامس، يبتسم كما براءة الاطفال. فالبراءة معه لا تشيخ كما قال يوماً الرسام الكبير ليوناردو دافنيشي حين سئل عن سبب احتفاظ رائعته وجه "الموناليزا" بسمات الطفولة.
قررت ان استجمع قوتي لأسأل الشاعر السؤال الاخطر في ذلك الحديث: أليس في لجوئك الى المهد بعض اليأس يا أستاذنا الكبير. انتفض ابو معن، كما النمرالجريح قائلاً: على العكس تماماً، العودة الى المهد والبدايات هي اقصى الامل، انها الرغبة في الاستحمام بضوء النور من كل أدران الظلمة التي تفتك بحياتنا، انها الرغبة في استنشاق هواء الحرية للافلات من جو الخيبة الخانق، فالخائبون اما ان يسقطوا او ينحرفوا او يعرّضوا تاريخهم للبيع في مزادات السلاطين… اما الذين يصرّون على البداية من جديد فهم المؤمنون الحقيقيون".
فهمت يومها ان اختيار اليمن مقراً لإقامته في الربع الاخير من تسعينات العمر كان اشهاراً جديداً بتمسكه بالعروبة وهو شاعر العروبة الذي حمل طيلة حياته لواء العروبة" منذ ان شهد بأم عينه، وهو فتى، كيف انتهك تقاسم النفوذ الاجنبي "عروبة اللواء السليب" الذي تفتح وعيه القومي فيه، وكتب اول قصائده عنه، وهو طفل في العاشرة، بل وشارك على ارضه في حركة نضال أبنائه دفاعاً عن هويته العربية… قبل ان تصبح العروبة مهددة كما اليوم على امتداد الوطن الكبير…
وفهمت يومها ان اختيار الطفولة موضوعاً لاهتمامه الادبي، هو اعلان متجدد عن ارتباط بأمل لا تطويه الخيبات، وتجديد ثقة بالمستقبل لا تجهضها النكسات، متوقعاً ان اطفال السبعينات والثمانينات والتسعينات من القرن الماضي سيغدون شباب المقاومة والانتفاضة وحركات التغيير فيما بعد.
وفي جلسات متلاحقة كانت تضمني اليه في كل مرة ازور صنعاء ونردد معاً " لا بد من العروبة ان طال الزمن" (على غرار "لا بد من صنعاء وان طال السفر") كنت اغرف من رحلة عمره الغنية التي بدأت من الاسكندرون السليب ورمزه الاصيلة زكي الارسوزي وصدقي اسماعيل ووهيب الغانم الى حماه المشبعة بتراث سعيد العاص فوزي القاوقجي واكرم الحوراني الى اللاذقية المتكئة على بطولات صالح العلي، وعمر البيطار وعز الدين القسام، الى حلب ابراهيم هنانو وسعد الله الجابري ورشدي الكيخيا بل الى حلب التي حملته منابرها. الى مصاف شعرائها الكبار من ابي فراس الحمداني الى عمر ابو ريشة، ودائماً في دمشق يوسف العظمة، شكري القوتلي، عبد الرحمن الشهبندر، والخراط والاشمر وعدنان المالكي ونزار قباني, في دمشق التي بات فيها رسولاً للعروبة في صفوف البعثيين الاوائل على مقاعد التجهيز الاولى وعلى يد ميشال عفلق وصلاح البيطار وجلال السيد ومدحت البيطار وعمل حارساً للعربية في وزارة التربية مدركاً ان من يصون لغة القرآن من الخراب، انما يبني اول الحصون في الدفاع عن العروبة الجامعة المتباهية بتنوع مكوناتها، والمعتزة بتكاملها مع الاسلام وبموقع المسيحية المشرقية في نهضتها.
وكانت بغداد، التي درّس فيها العيسى لسنوات، وبقي فيها رفاق ومحبون كثر ومعجبون على مدى العقود، هي الامل والجرح معاً، ولا أنسى مع بدايات الحرب الاميركية على العراق عام 2003 عليها كيف تدحرجت دموع على خدّي الشيخ الطفل وانا اذكّره بأبيات من الشعر حفظتها له في اواخر الخمسينات:
بغداد يزرعها التتار خناجراً ودماً وتصمت كالاله وتصبر
أعرفتها يوماً اذا ما زمجرت الويل للعملاء يوم تزمجر
اما فلسطين والجزائر، جناحا ثورة الامة على المستعمر الاستيطاني، فقد كان لكل منهما ديواناً شعر من شاعر العروبة المتألق يحمّل كل منهما التصميم على الكفاح والثقة بالنصر.
ولم يكن ممكناً ان تكتمل عروبة شاعر العروبة دون مصر التي انشد لقائد الامة جمال عبد الناصر اجمل قصائده، رغم عتاب قاس هو عتاب المحب على من علّق عليه اكبر الآمال.
اما آخر عهد به فكانت يوم وداع صديقه ورفيق نضاله الطويل منصور سلطان الاطرش، حين جاء اليّ وانا في المأتم الحاشد في الملعب الرياضي في السويداء من يحمل لي ابياتاً من الشعر كتبها سليمان العيسى لرفيق "العروبة الصعبة" و"الدروب المستحيلة" وفيها الكثير من الخيبة ولكن فيها من الامل اكثر.
وكنت وانا أقرأ تلك الابيات قبل ان اتقدم الى الميكروفون متحدثاً باسم اصدقاء منصور الاطرش (الذي جعل من مزرعته في ايامه الاخيرة وطناً له، بينما جعل الكثيرون من اوطانهم مزارع لهم) اقول لنفسي ان ابا معن انما يكتب راثياً نفسه وهو يرثي ابا ثائر، وفي تلك الابيات قال العيسى:
يا ابن العرين، ويا رفيق كفاحنا
والريح تمضغ حلمنا المؤودا
سيظلّ بيتك عبر حالكة الدجى
ناراً تضيء كفاحنا ووقودا
ابسط يديك الى الرفاق من الردى
الفجر فجرك ما يزال بعيداً
وأقول له اليوم: ابا معن
سيظل شعرك عبر حالكة الدجى
ناراً تضيء كفاحنا ووقودا
ابسط يديك الى الرفاق من الردى
الفجر فجرك لن يكون بعيدا
ونقول له فجر سوريا سيشرق من جديد لتعود كما عهدتها عرين الاسود وجنودها حماة الديار.