ليس من المستغرب عودة بوش الى تصعيد العمليات العسكرية ضد معاقل المقاومة ، سواء في المدن او البلدات العراقية ، فالاستراتيجية الجديدة التي اعتمدها في بداية العام الماضي وارسال قوات اضافية بلغت حينها 25 الف جندي امريكي استندت على هذا الاساس.وخلال الشهور الماضية قامت القوات الامريكية وما يسمى بالجيش العراقي والشرطة والاجهزة الامنية بالعديد من العمليات ضد محافظات الموصل وصلاح الدين وديالى وبابل والبصرة والعمارة وضد المحمودية واليوسفية واللطيفه، فبوش اصبح في امس الحاجة لتحقيق انتصارات عسكرية ذات قيمة يعزز بها ما حققه على الجانب الاخر لجهة المعاهده الاستعبادية التي جعلت من العراق ولاية امريكية جديدة.
ضمن هذا السياق ياتي الهجوم على مدينة ديالى بهدف القضاء على المقاومة وفرض السيطرة الكاملة عليها، وليس كما أدعي بوش والمالكي، بان الهدف من هذا الهجوم هو اعتقال 30 ارهابيا خارجين عن القانون. والا ما كانت هناك حاجة لحشد 30 الف جندي امريكي وعراقي لهذا الغرض، مدعمين بطائرات مقاتلة ومدفعية ثقيلة واسلحة متطورة ضد مدينة صغيرة مثل ديالى ،ناهيك عن القوات المتواجدة فيها اصلا.
بعيدا عن القيل والقال حول عملية ديالى التي سماها المالكي بشائر الخير وعن الشكوك حول اي من الطرفين المتحاربين قد هزم او انتصر، فمما لا شك فيه ان بشائر الخير لم تنته على خير كما توقع بوش والمالكي، فقد وصف مراسل الواشنطن بوست ومراسل وول ستريت جورنال جواشوا بارتلوا على لسان ضباط امريكيين وعراقيين في اليوم الثاني للمعركة وتحديدا يوم 30 من الشهر الماضي، بان القوة المهاجمة طاردت اشباحا يخرجون ويدخلون دو ان نراهم.اما الملازم الأول جيمس براندون فقد ذكر، بأنّ الجنود الامريكيين والعراقيين واجهوا في مدينة ديالى متمردين مدربين جيداً على حرب العصابات، فهم يتنقلون بطريقة مذهلة رافضين الانجرار الى مواجهات مفتوحة يستطيع فيها الأميركان التغلب عليهم بأسلحتهم القاهرة،وان المسلحين يتصلون فيما بينهم بأجهزة الراديو وأحيانا يراقبون القوات الأميركية بنواظير الرؤية الليلية،وان بعض قناصيهم يتخذون من الحيطان الكونكريتية فوق سقوف البنايات متاريس لهم،وآخرون من المتمرّدين يستخدمون إحداثيات عسكرية في الرمي، وعندما تهاجمهم اية قوة عسكرية تجد نفسها وسط حشد من النيران ينطلق من كل اتجاه.
هذا الفشل الذي تعرضت له عملية بشائر الشر لم يحدث بالصدفة او ضربة حظ ، فالمقاومة العراقية لم تكن غافلة عن استراتيجية حرب المدن وما تنطوي عليها من مخاطر وما يترتب جراءها من نتائج تنعكس على مجمل الصراع الدائر بين المقاومة وقوات الاحتلال.ولذلك واجهتها باستراتيجية مقابلة اساسها الدفاع عن المدن دون الدخول في مواجهات مكشوفة او مفتوحه مع القوات المهاجمة، وانما التعامل معها بالطريقة التي تشاء وفي الوقت الذي تراه مناسبا.
نعم لقد فشل بوش حتى اللحظة الراهنة في استعادة السيطرة على اي مدينة بما فيها ديالى،ولا يغير من هذه الحقيقة تواجد قوات امريكية في هذه المدينة او تلك،اذا لا يمر يوما دون تعرض هذه القوات الى نيران المقاومة بما فيها القواعد العسكرية المحصنة.لكن ذلك لا يعني،كما يتوهم البعض، استسلام بوش للامرالواقع اوالتفكير بالانسحاب الطوعي او القبول بالهزيمة المشرفة. فهو لازال اسير اوهام القوة والنصر جراء اعتقاده بان جيشه لن يهزم وانه سينجز المهمة، وهذا يعني بانه سيبقى متمسكا بسياسته الدموية وعدم التخلي عن محاولاته الخائبة للقضاء على المقاومة العراقية واستعادة السيطرة على جميع المدن العراقية قبل انتهاء ولايته الثانية والاخيرة التي لم يبقى منها سوى اربعة شهور، في حين تؤكد الوقائع المدعومة بالادلة والشواهد على ان جنود الاحتلال يعانون من احباط شديد ومعنويات منهارة بعكس رجال المقاومة الذين يقاتلون بارادة متميزة وصلابة فولاذية، مكنتها من دفع العدو نحو طريق الانهيار والهزيمة،مما يستدعي من قيادة فصائل المقاومة الانتقال الى مرحلة جديدة من مراحل الصراع مع المحتل بحيث تكون قادرة على تحقيق الهدف النهائي المتمثل حصرا بتحرير العراق واستعادة استقلاله وسيادته كاملة غير منقوصة.
ولكي لا نطيل اكثر، فان تجارب الحرب الشعبية قدمت لنا ذخيرة هامة بهذا الخصوص،نتمنى على المقاومة العراقية الاسترشاد بها او اخذها بنظرالاعتبار بما يخدم ويؤمن مستلزمات النجاح للمرحلة الجديدة،خاصة وان حروب التحرير او حروب العصابات المسلحة تكاد تكون متشابة، وقد تصل احيانا الى حد التفاصيل في جوانب معينة، او على الاقل الاسترشاد بقوانينها العامة.
اولها انه من الضروري جدا لجوء المقاومة إلى العمليات الهجومية ضد قوات الاحتلال في اي مكان يمكن الوصول اليه،على الرغم من وضع المقاومة من الناحية الاستراتيجية في موقع الدفاع، واللجوء ايضا إلى العمليات الهجومية السريعة على الرغم من اعتماد المقاومة على الحرب الشعبية الطويلة الامد،وليس في ذلك اي تناقض، فالحرب الدفاعية لا تعني الغاء الهجوم التكتيكي والحرب الطويلة الامد لا تلغي العمليات العسكرية السريعة،كما لا يقف امام هذا الفعل تفوق العدو عسكريا، فقوات الاحتلال رغم قوتها وما تتمتع به من جودة الأسلحة و حسن التدريب العسكري الا انها صغيرة عدديا ، في حين أن المقاومة برغم أنها ضعيفة تسليحا وتدريبا، فهي ضخمة عدديا لان الشعب يقف ورائها ويساندها ويحميها، ناهيك عن ان المحتل اتى للعدوان على بلادنا دون حق او مبررات حتى اذا كانت واهية، بينما نحن نقاوم الاحتلال الأجنبي على ارضنا وبين اهلنا.
وثانيها إن حرب العصابات بطبيعتها تخاض بقوات متفرقة،الأمر الذي يجعل منها حربا منتشرة على نطاق واسع ، وهذا يتطلب من المقاومة العراقية اعتماد مبدأ تقسيم القوات في معظم المهمات القتالية التي تستهدف التشويش على قوات الاحتلال و تقييد تحركاتها ، والقيام بعمليات هجومية تستهدف تدمير منشات المحتل ومستودعات اسلحته ومعداته وقطع خطوط مواصلاته ومهاجمة قواعده الثابتة، وهذا لا يمنع المقاومة من تركيز قواتها في حالة مهاجمة قوة عسكرية صغيرة من اجل ابادتها.
اما ثالثها فان مسألة المبادرة ترتدي أهمية كبيرة بالنسبة إلى حرب العصابات،ذلك أن قوات العصابات تعمل عادة في ظروف شاقة ، لانها تقاتل من دون مؤخرة تستند إليها وتجابه بقوة ضعيفة عدوا قويا ،ومع ذلك تستطيع المقاومة أن تكسب المبادرة في حرب العصابات مستفيدة من نقاط ضعف المحتل الذي يقاتل في ارض غريبة عليه ووسط شعب معادي له ، ناهيك بان صغر حجم المجموعات المقاتلة وقلة عددها يسهل عليها الظهور و الاختفاء بسرعة مدهشة وسرية تامة دون أن يستطيع العدو عمل شيئا ضدها.
ورابعها ان مبدا المرونة ظاهرة ترفد في نفس الوقت مبدأ المبادرة بصورة عملية، حيث استخدام قوات المقاومة بمرونة هو أمر ضروري جدا في حرب العصابات منه في الحرب النظامية،ولذلك ينبغي على قادة المقاومة أن يدركوا أن استخدام القوات بمرونة هو أهم وسيلة من أجل تبديل الأوضاع القائمة بين المحتل والمقاومة بهدف كسب زمام المبادرة، في حين أن الجمود و بطئ الحركة يؤديان بصورة حتمية إلى موقف سلبي و يسببان خسائر لا مبرر لها.
واخيرا وليس اخرا،فان كسب النصر في حرب العصابات لا يتأتى بمعزل عن التخطيط ، و إن من يظن إنه يمكنه إن يخوض حرب العصابات كما يحلو له، إنما هو يعبث بحرب العصابات أو يجهل ما هي حرب العصابات. إن جميع العمليات من هذا النوع ، سواء كانت عمليات تشمل منطقة بأكملها من مناطق حرب العصابات ، أم كانت عمليات تقوم بها فصيلة من فصائل العصابات أو فرقة من فرقها ، يجب أن يسبقها تخطيط دقيق قدر الإمكان. إن الاطلاع على الظروف و تحديد المهمات و توزيع القوات والتثقيف العسكري والسياسي وإعداد المؤن و تهيئة العتاد وكسب التأييد الشعبي، كلها تدخل ضمن أعمال القادة التي يجب أن يمعنوا النظر فيها و ينفذوها تنفيذا حازما، فالقتال ضد العدو ليس مزاحا.
ليس من الحكمة السياسية الاستهانة بتجارب الشعوب وخبرة المختصين ونصائح الحريصين،ولا الاستهانة في نفس الوقت بقوة المحتل وامكاناته الكبيرة على الرغم من مازقها الخانق، خاصة ونحن مقبلون على حرب ضروس ودموية الطابع، فبوش يعد العدة لتوحيد معسكر الاحتلال من جهة. ومن جهة اخرى تهيئة الوضع العربي والاقليمي،سواء بالتهديد او الترغيب، لمساعدته بكل الامكانات المتاحة لانقاذ مشروع الاحتلال من السقوط ، وقد نجد نموذجا عنها في الاتصالات التي اجراها بوش مؤخرا مع عادل عبد المهدي ومسعود البرزاني، كما نجدها في زيارة جلال الطالباني الى امريكا تحت ذريعة العلاج وكذلك في تهديداته لمصر والاردن والسعودية ودول الخليج بعصا المقاومة العراقية اذا ما هزمت امريكا في العراق،وحتى زيارة رجب طيب اردوغان رئيس وزراء تركيا الى بغداد والزيارة المرتقبة لملك الاردن والتبادل الدبلوماسي على مستوى السفراء بين بعض الدول العربية وحكومة المالكي والجولات التي قام بها الاخير لدول المنطقة، فانها تدخل جميعها في هذا الاطار. في حين يسعى بوش على الجانب الاخر، انهاء خلافاته مع ايران حول توزيع الادوار والمكاسب في العراق ، وتهيئة الاوضاع لتفعيل التعاون بينهما لانهاء المقاومة العراقية وتثبيت حكومة المالكي وتمكينها من توقيع المعاهدة الاستعمارية بسهولة، والا بماذا نفسراقلاع امريكا عن التهديدات الجوفاء بضرب ايران والحديث عن الحلول الدبلوماسية حول برنامجها النووي؟
ان تحقيق الانتصار النهائي على قوات الاحتلال وطردها الى الابد والفوز بعراق محرر وموحد وديمقراطي ، لن يتحقق بما تمتلكه المقاومة العراقية من قوة وخبرة وكفاءة فحسب، وانما بتوفير بعض الشرط االلازمة ومن بينها واهمها،توحيد فصائل المقاومة وتشكيل جيش التحرير الشعبي تحت قيادة موحدة واقامة الجبهة الوطنية الشاملة تحت راية برنامج سياسي يلبي القاسم المشترك لجميع تكوينات وفئات الشعب العراقي.وهذا ما يفسر الحاح واصرار الشعب العراقي على مطالبته بانجاز هذه المهام النبيلة لانها الامل ولانها المبتغى.
9/8/2008