طالما حذّر الحريصون على مصر شعباً ودولة وثورة من محاولات تجويفها من الداخل وبخاصة عن طريق الفتنة الطائفية، ألد الأعداء وأشدّهم خطراً على أي جماعة أو شعب أو أمة . هؤلاء وضعوا أيديهم على قلوبهم خوفاً على مصر التي لم يكن أعداؤها يتوقّعون أن بمقدورها أن تغيّر تاريخها رأساً على عقب في هذه الفترة الزمنية القياسية، وأن تطيح نظاماً بدا طيلة ثلاثين عاماً وكأنه قوي ومحصّن، فإذا به يتحوّل إلى مبنى هش أمام إرادة الشعب المصري، فتيقّنوا أن الوسيلة الوحيدة الممكنة لإجهاض مفاعيل الثورة وإعادة مصر إلى دورها المعهود في ظل النظام السابق، هو زرع قنابل الفتنة بين المصريين، ذلك أن القلاع لا تقتحم إلا من الداخل .
لكن أشد المتشائمين ما كان ليتوقّع هذا العدد الكبير من القتلى والجرحى في يوم واحد، أو ربما في بضع ساعات، من بين أبناء الشعب المصري الخارج للتو من واحدة من أنبل وأنقى الثورات في التاريخ . الشعب الذي حمى نفسه وعائلاته وأملاكه طيلة أيام الثورة وبعدها، حين أريد للشرطة أن تفر من الميدان في عملية كانت مقصودة تماماً لترويع الشعب المصري وتخويفه من بدائل تغيير النظام .
قد يعتقد البعض أن هذا التشخيص يعني أن كل المشاركين في المصادمات المندلعة بين الحين والآخر، وأعنفها تلك التي جرت أول أمس، مدسوسون وفتنويون . ليس هذا ما يحصل في ميادين الفتنة، ولا يمكن أن تشتعل فتنة على هذا النحو . فهذا الداء المدمّر ليس بحاجة إلى أعداد كبيرة من الناس حتى يفتك بالطرفين، بل هو على النقيض من ذلك يحتاج إلى أعداد قليلة وحلقات صغيرة يسهل اختفاؤها ويسرّع ذوبانها في لهيب الاشتعال الذي تضرمه وتنسل بعيداً لتبليغ أسيادها بنجاح المهمة وقبض الثمن .
ولعل النضال الفلسطيني أكثر من شهد نتائج الفتنة ونجاح مفاعيلها في كثير من الأوقات في خلق صدامات دامية بين الفلسطينيين في الجامعات والمدارس والنقابات والسجون، وفي المجمعات السكنية مثل القرى والمخيمات، وأحياناً في المدن . في كل مرة كانت النار تخمد والنفوس تهدأ، وبتحرّك بسيط يقع مشعلو الفتنة في الفخ ويعرفون بمن أرسلهم وما هي أهدافه . لكن، مع الأسف لا يتعمم الدرس على نحو كافٍ لكي يستفيد الفلسطينيون من التجربة ويتجنّبوا الجانب السلبي في تجاربهم النضالية وما يعلق بها من طفيليات وأصحاب مشاريع مشبوهة وامتيازات لا تتحقق إلا في أجواء الفتنة والانقسام .
مصر الآن على مفترق طرق، وليتذكّر أبناؤها المخلصون أن الجاسوس “الإسرائيلي” غرابيل الذي قبض عليه في ميدان التحرير حيث تقمّص دور الثائر، لم تكن له مهمّة من جانب “إسرائيل” سوى إشاعة الفتنة الطائفية . عليهم أن يدركوا أن ما يتربّص بهم أهم كثيراً من أي خلاف تافه ينشأ هنا أو هناك . عليهم الحذر من كل داع للتعصّب الطائفي ووضعه تحت إشارة استفهام كبيرة، لأن أي شخص يشعل فتنة بين طائفتين لا يمكن أن يكون منتمياً إلى أي منهما، وعندما يدّعي حرصه على هذه الطائفة أو تلك عن طريق العنف، لا بد أن يكون صاحب دور أو جاهلاً، وفي الحالتين لا يستحق أن يستجيب لدعواته أحد .
ومهما يكن من أمر، لن تنتصر الفتنة على مصر وشعبها، ولن ينجح المفسدون في إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، فمصر أصلاً سبقت عقارب الساعة .
الخليج :الأربعاء ,12/10/2011