التنافس الحاد في مباريات كرة القدم من أبجديات اللعبة. و"هوياتها" و"ماهياتها" متعددة، تبدأ من صراع فرق الحواري، صعودا إلى فرق البلدات، والمدن، فالمحافظات، إلى القطر حتى مونديال العالم. ويحكمها في الغالب قانون انصر أخاك ظالما أو مظلوما. ماهيتها تختزن شيئا من موروث القبيلة، تنتقل بأشكال حديثة، لم تكن مألوفة، تحاول أن تتجاوز شبكات الماضي، وبنياته، لكنها رغم ذلك تحتفظ في ثناياها ببعض منه.
في مصر يتبارى حزبا الزمالك والأهلي، ويتنافسان فيما بينهما. وهما أقوى في حضورهما بكل المقاييس، من أي حزب سياسي في مصر، بما في ذلك حزب السلطة. والصراع بينهما معبر عنه في كل حي وفي كل شارع… وأثناء المنافسات، تغدو المقاطعة بين الحزبين، شديدة المراس، وعصية على لغة التطبيع. يتحلق أنصار الأحمر في واد، ويمتنع أنصار الأبيض عن تناول البطيخ، ويقاطع باعة الخضار، غرماءهم، ملتزمين باستراتيجية المقاطعة العربية، في حدها الأعلى.. ذلك كان هو الحال، ولا يزال كذلك. وينتهي موسم التنافس، ويعود الناس إلى شؤونهم الخاصة، بعد انتهاء الكرنفال. ولا عداء ولا من يحزنون.
مثل ذلك الحال، موجود في كل البلدان العربية، دون تمييز. واستعاره في بلداننا العربية، هو وجه آخر، للقصور في ممارسة المجتمع المدني لأدواره، ووجه آخر لغياب "المؤسساتية"، وحرية العمل النقابي. وتعبير عن احتقانات دفينة، وكبت محموم، وغضب مكتوم وعجز صارخ عن تلبية المطالب الرئيسية للناس، في الحصول على المأوى والمأكل والمشرب، والتعليم والعلاج..
تعابير عن غضب مكبوت، تأخذ أشكالها في عنف "غير موجه"، حسب تعبير المفكر المارتنيكي فرانز فانون. رقصة افريقية بالسيف، يذهب الراقص نفسه ضحية لها، على قربان غضبه وتمرده. رقصات هي أشبه برقصات الزار، لا تنتهي ألا بعد أن ينسل شيء من التوتر والغضب، وتتكفل الهلوسة بتحقيق شيء من التوازن للنفوس المعذبة المقهورة، ودورهذه الهلوسة أشبه بحقنة المخدرات، سرعان ما ينتهي مفعولها، لتعاود دورات العنف غير الموجه، في دورات أخرى، في متتاليات ليس لها نهاية. إنها إذن جملة من الحيل الدفاعية، نلجأ لها تعبيرا عن العجز، وغياب الرؤية.
في حالة مصر والجزائر، رقصنا جميع رقصة زار، وبدا أن قانون اللعبة، قد تجاوز حده. ولم يكن هناك من بإمكانه مسك أداة التحكم "الرموت"، ولعله كان الآخر، قد استغرق كثيرا باللعبة، وبلغ حالة من التجلي، لدرجة عجز فيها عن التحكم بأصابعه. ولذلك لم يسدل الستار، قبل فوات الأوان، فكانت الفاجعة.
لن يجد كثيرا تحميل أي طرف مسؤولية ما جرى، من صورة انهيار في العلاقة بين مصر والجزائر، فكلنا مسؤولون عن ذلك، وإن كان بالصمت العاجز عما يجري في أقطارنا العربية. والفشل في إعادة تركيب الصورة، وترتيب الأولويات لن يكون انتصارا لفريق على آخر، بل سيكون طعنا لكليهما. ليس ذلك فحسب، بل سيكون طعنا لملايين الحناجر التي رفعت صوتها عاليا مناصرة مصر، وهي تتصدى للعدوان الثلاثي الغاشم عليها عام 1956م، بسبب موقفها البطولي في الدفاع عن عروبة الجزائر، وعن حقها في الاستقلال وتقرير المصير.
نعم سيكون طعنا للتاريخ وللفن، ولصوت وردة الصادح، بـ كلنا جميلة… بطلة النبيلة… كلنا فداها. وفوق ذلك كله، سيكون تنكرا لدماء المليون ونصف شهيد من شعب الجزائر البطل، الذي سقط فوق شمم الأوراس، وأودية قسطنطينة، ليصنع تاريخا مطرزا بالشموخ والبطولة لأمة العرب.
حدثان مجلجلان، يختصران القول، وباستحضارهما، تتأكد وحدة مصير شعبي مصر والجزائر، وهي وحدة مصير كل العرب. الحدث الأول، أخذ مكانه في القاهرة، عام 1954، حين اتخذ الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، قراره بدعم حركات التحرر في المغرب العربي. كانت أوضاع الجزائر، آنذاك غامضة إلى حد كبير، وكان الفرنسيون يتصرفون في هذا البلد العربي، باعتباره جزءا من فرنسا، جنوبي البحر الأبيض المتوسط. ولم يكن في وارد التصديق، بما تبشر به بعض الأحزاب الجزائرية الصغيرة عن إمكانية مقاومة المحتل الفرنسي للجزائر.
في غمرة التحضير المصري، لنصرة حركات التحرر المغربية، وصل إلى القاهرة، شاب جزائري لم يتمكن من الحديث بالعربية، ولجأ إلى الفرنسية للتعبير عن نفسه، متخذا من ذلك دليلا إضافية على جريمة الاستعمار الفرنسي، في تغييب الهوية، من خلال تغييب اللغة العربية، الحاضنة الأساسية لهوية الجزائر. اسم هذا الشاب، هو "مزياني مسعود"، الذي التقى لاحقا، في تلك الزيارة بالرئيس عبدالناصر، وأبلغه أن اسمه الحقيقي هو أحمد بن بيلا. ووضع أمام عبدالناصر، كما يشير الأستاذ هيكل، في كتابه ملفات السويس تفاصيل كاملة عن تنظيم المقاومة التي ينتمي لها، وطلب مساعدة مصر بالسلاح، ووافقه الرئيس ناصر على ذلك. وفي نوفمبر من ذلك العام، انطلقت شرارة الثورة، وأصبحت عاصمة المعز لدين الله الفاطمي، مقرا مؤقتا لقيادتها. وطلب عبدالناصر من كافة أجهزة الدولة المصرية، أن تفتح كل أبواب المساعدة والإمداد للثورة، بما في ذلك إنشاء خطوط الاتصال والمواصلات مع مراكزها وقواعدها في خارج الجزائر وداخلها.
منذ ذلك التاريخ، دخلت مصر معركة الجزائر، في عناوينها وتفاصيلها. ودفعت عرقا ودما، ومواجهة أسطورية لعدوان غاشم شارك فيه الكيان العبري وبريطانيا. ووقف شعب مصر، وخلفه الشعب العربي في جميع أقطاره دفاعا كرامة الأمة، وكبرياء أرض الكنانة، الذي طاول شموخه قمم الأوراس، ليمتزج الدم بين القطرين، وتتحقق وحدة المصير.
الحدث الآخر، كان زيارة الرئيس الجزائري الراحل، هواري بومدين لموسكو ولقائه بالقادة الروس، وفي مقدمتهم السكرتير العام للحزب الشيوعي السوفييتي، ليونيد بريجنيف، في 12 حزيران/ يونيو عام 1967م، بعد ثلاثة أيام فقط من وقف إطلاق النار على الجبهات العربية مع الكيان الصهيوني. في ذلك اللقاء تساءل بومدين عن حدود الوفاق السوفييتي – الأمريكي، وهل هو وفاق من جانب واحد، ولماذا يتصرف السوفييت بأقصى درجات الضعف، في حين يتصرف الأمريكيون بأقصى درجات القوة.
أبلغ بومدين السوفييت أن هزيمة حزيران لم تمس العرب وحدهم، بل شملتهم أيضا، كون السلاح الذين قاتل به العرب هو سلاح سوفييتي، وأنهم لم يحركوا ساكنا للحفاظ على سمعتهم. فأجاب السوفييت بأنهم قدموا كل ما يلزم، من سلاح وعتاد لنصرة مصر وسوريا، وأنهم لم يحسنوا استعماله. إن ما عدا ذلك لن يكون من شأنه سوى جر العالم إلى حرب نووية. لقد قدم السوفييت لمصر وسوريا السلاح بأسعار مريحة، وأن العرب لم يسددوا حتى ربع تكاليف ما حصلوا عليه.
استبد الغضب بأبي مدين عند سماعه الرد السوفييتي، وأبلغ القادة الروس أنه كان متخوفا من هذه الملاحظة، وأنه جاء مستعدا لها، وطلب من وزير المالية الجزائري أن يعد له تحويلا لصالح وزارة الدفاع السوفييتية بمبلغ 100 مليون دولار، وقدم شيكا بذلك المبلغ، كان يحتفظ به في مغلف أمامه ووضعه على المائدة.. وانتهت حالة الاشتباك بإلاتفاق على سفر الرئيس السوفييتي، بادجورني إلى القاهرة، للقاء مع عبد الناصر، وتسوية الأمور المختلف عليها، وتنسيق المواقف.
وقد أسهمت تلك الزيارة بشكل كبير، في تغيير الموقف السوفييتي، ومد مصر بأنواع متطورة من السلاح، كانت المقدمة لتهيئة مستلزمات معركة العبور في عام 1973م. وكان الجيش الجزائري، وقواته الجوية في القلب من المعركة، وبالمثل كانت سياسات الحكومة الجزائرية الوطنية، رافدا ومعضدا للأبطال الذين حطموا خط بارليف.
منذ زيارة الشاب المناضل مزياني مسعود للقاهرة، عام 1954، إلى احتضان الرئيس عبد الناصر لثورة المليون شهيد، وحتى الموقف التاريخي البطولي للقيادة الجزائرية، في حزيران عام 1967، ومعركة العبور عام 1973م، إلى يومنا هذا ومصر والجزائر بلدان يجمعها جسد واحد ومصير واحد ومستقبل واحد… سحابة الصيف هذه ستنقشع قريبا، وسيعود للحن الوفاء ألقه وحضوره.