محمد عبد الحكم دياب
من المعروف أن جرم الفرد يعود بأثره السيئ على صاحبه فقط، وهذه هي حدود جريمته ودرجتها، أما الجريمة العامة فوبالها يلحق بعموم الناس، وضحاياها يقدرون بمئات الآلاف والملايين. والجريمة حين تتعدى الحدود الفردية والشخصية يتسع أذاها، فتصيب المجتمع، وتحدث خللا في مقومات الدولة، وتتدنى بحياة المواطنين وسلوكهم.
وإذا كان الانتحار جريمة في حق النفس ترفضها الشرائع السماوية والوضعية كافة، إلا أنها تبقى في حدود انتقام الشخص من نفسه، أما المسؤول الذي يكسب رزقه وماله من توطين الأمراض ونشر الأوبئة والسرطانات، والاستيلاء على أراضي الدولة والاتجار في السموم، هو هنا يرتكب جرما، يترتب عليه أذى عموم الوطن والمواطنين، ولهذا تغلظ شرائع وقوانين المجتمعات الديمقراطية العقوبات على هذا النوع من البشر، وتضع ضوابط صارمة للتصرف في مجالي المال الخاص والعام، وفيها نجد أن الفرد مالك الثروة ليس مطلق اليد فيها، فالقوانين تمنع السفيه من تبديد أمواله، وتصل إلى درجة الحجر عليه، وعدم تمكينه من التصرف فيها.
والجريمة السياسية غالبا ما ترتبط بالفساد الاقتصادي، واستحلال المال العام، وعلى مدى أربعين عاما ارتكبت في مصر جرائم سياسية من هذا النوع وضعتها في ذيل الدول، وأوصلت شعبها إلى درجة الهوان غير المسبوقة. وما زال مواطنوها يعانون من آثارها الاقتصادية والصحية والاجتماعية والنفسية، أما الدولة فقد انحرفت عن مسارها وصارت على دين ملوكها، والوطن فقد استقلاله وأغرقته الديون في مستنقع التبعية، وتفرق دمه بين القبائل الصهيونية والخليجية وبين أصحاب القرار في عواصم الغرب المصهينة.
وعن طريق ذلك تضخمت الثروات الحرام وانتشر الفقر، وسادت ثقافة التمييز بين ذوي السلطان وكبار الملاك والمرابين ولصوص المال العام وأباطرة الخصخصة وبين المواطن المستقيم.
هذا بعض حال مصر الراهن مع معركة انتخابات الرئاسة، التي أصبحت فرصة تعيد الفلول والقتلة والمفسدين في الأرض وحيتان المال والأعمال إلى سابق عهدهم، يرممون بنيان منظومتهم التي تخصصت في الاستبداد والفساد والتبعية والإفقار بعد تصدعها بفعل الثورة. وينتهي المشهد الانتخابي وفي صدارته عمر سليمان و”الشاطر“ خيرت، وهما وجهان لعملة واحدة، تستهدف تجديد علاقة السِّفاح بين السياسة والمال، واستعادة اقتران الأمن والعمل البوليسي بالثروة.
ووجه العملة المتمثل في عمر سليمان، يقول بأنه أخطر أفراد فريق القتلة وأحد أهم ملوك التعذيب لحساب واشنطن وتل أبيب، وشريك لدول الخليج في تآمرهم على تماسك المنطقة ووجودها، وبذلك الوضع أعطى العدو أكثر مما يطمح، ومنحه فوق ما يحلم. وامتد أذاه إلى فلسطين والسودان وحوض النيل، وصولا إلى غزو العراق، ومنح الغاز للصهاينة بينما تُحرم غزة من حق الحياة، وهي سياسيا وأخلاقيا وأمنيا مسؤولية وطنية مصرية، حتى لو لم يعجب البعض هذا الكلام.
ولو بذل عمر سليمان جزءً من هذا الجهد لبلده لكان وضعه قد اختلف، ولاحتفظ بموارده الطبيعية والاستراتيجية والبشرية، وأدى دوره كما يجب أن يكون، ولاكتفى ذاتيا أولا، ونما اقتصاده وازدهر ثانيا، ورفع من مستوى معيشة مواطنيه ثالثا، ولتجنب عاره الذي ألحقه به.
وكشفت مصادر أمريكية وصهيونية ذلك العار، المقترن بوضعه كعبد مطيع، ينفذ جرائمه العدو ويقوم بالأعمال القذرة نيابة عن أجهزة مخابراته، فيخفف من سجلها الأسود وتاريخها المشين في الاغتيالات والتآمر والانقلابات والغزو والتخريب والإفساد، وعمل لدى الأجهزة الأمريكية جلادا تحت الطلب، يعذب ويستنطق المعتقلين كلما طُلب منه ذلك. وكان المعتقل يُسلم إلى عمر سليمان فينجح فيما فشل فيه نظيره الأمريكي، بعدها يعود إلى سجنه بقاعدة ”غوانتنامو“ الأمريكية في كوبا، ومعه اعترافه المدون والموقع بما قام ولم يقم به، وهذا ما يفعله التعذيب الوحشي الذي لا يحتمله بشر.
ذلك أفقد مصر سمعتها، ولحق بها عاره، الذي لا يُمحى من ذاكرة الأيام. ونجاحه في انتخابات الرئاسة معناه أن المصريين يكافئونه على جرائمه تلك، ومنها جريمة استنطاق معتقل نسج علاقة وهمية ربطت صدام حسين بتنظيم “القاعدة“، مما مكن كولن باول وزير الخارجية الأمريكية وقتها من إعلان تقريره المفبرك اعتمادا على ذلك الاعتراف المنتزع قسرا، وهو ما استندت إليه خطة غزو العراق وتدميره وتقسيمه، وبه تمت مواجهة الرأي العام العالمي وكان في مجمله ضد الغزو، وكانت الشهادة المفبركة التي أهداها عمر سليمان لسادته غطاء سياسيا وقانونيا وحجة لمواجهة الرأي العام الأمريكي وحشده إلى صف الغزو.
كان نائب مبارك السابق طرفا أصيلا في عملية ”إهداء“ (وليس بيع) الغاز للدولة الصهيونية، وكانت مصر، ولا زالت في حاجة إلى كل قطرة غاز لمواطنيها وصناعتها، في وقت يتقاتل فيه المواطنون من أجل الفوز باسطوانة غاز (بوتاغاز) للاستهلاك المنزلي، وتغلق مصانع أبوابها بسبب ذلك “الإهداء“ المحرم والمُجَرّم، وبذلك بدد موردا من موارد مصر الطبيعية والاستراتيجية.
وقف عمر سليمان وراء قرار إحكام الحصار على غزة وخنقها من أجل “العيون الصهيونية السوداء“، فكان أهم أدوات مبارك في تركيع وترويع وترهيب وإخضاع الشعب، ولولاه ما استمر في الحكم على جماجم وأشلاء المواطنين تلك المدة الطويلة. ولن يتورع إذا ما وصل إلى مقعد الرئاسة عن نصب المشانق للثوار في طول البلاد وعرضها، ثأرا لسيده وتنفيذا لإرادة سادة سيده في واشنطن وتل أبيب، وما زال البيت الأبيض يفتقده، ومازالت الدولة الصهيونية تلهج بالثناء عليه، وتدين له بالنجاة والاستمرار، آمنة سالمة حتى الآن.
عمر سليمان فضلا عن أنه كان يدا باطشة لمبارك وجلاده الذي تستعيره المنظومة الصهيو غربية للقيام بالعمليات القذرة، التي تحتاجها في إعادة رسم خرائط المنطقة العربية، وتقيم على أنقاضها شرق أوسط مصهين ممزق، عاصمته تل أبيب، وتمثل فيه الدولة الصهيونية القوة الإقليمية الأعظم بلا منازع أو منافس. وإذا كان سليمان وجها من وجهي العملة الدمار والهوان فإن وجهها الثاني لأحد أباطرة المال والأعمال، الساعي لرد الاعتبار لأرباب الثروات الفاحشة وأصحاب الوكالات الاحتكارية، ليستمروا في تحكمهم في مصير الوطن وأرزاق المواطنين.
وخطورة دور “الشاطر“ هي في أنه لا يفكر في إسترداد الثروات المنهوبة، ويعيدها لأهلها وأصحابها، بل يوظف الخطاب الديني، يحصن به الثروات الحرام، ويضفي على المال المنهوب قدسية ليست له. ومن أجل أن ينجح في دوره هذا هرول نحو سادته يطمئنهم على مصالحهم وعلى بقاء هياكل الاقتصاد كما كانت في عصر مبارك، الذي وصفه أحمد شفيق المرشح الرئاسي الآخر بأنه مثله الأعلى!!. وبدلا من طمأنة الشعب الذي يريد أن صوته الانتخابي على مستقبله، يقوم بالعكس، ويضرب عرض الحائط بما جاء في الكتب السماوية وخاصة القرآن الكريم بشأن المال ومصارفه.
وإذا كان عمر سليمان قد تخصص في التعذيب وإزهاق الأرواح فإن أباطرة المال ”الإسلامي“ ذوي خبرة عالية في إفقار المواطنين وتبديد الثروات العامة وتصفية أصول الدولة، ومن أجل ذلك ذهب وفد أباطرة المال ”الإسلامي“ لطلب المباركة من البيت الأبيض، وطمأنته على مصالحه ومصالح الدولة الصهيونية، وكان ”عربون المحبة“ هو استمرار العمل باتفاقية كامب ديفيد. وزاد ”الشاطر“ في الشعر بيتا في حديث أدلى به إلى ”رويترز“ يوم الإثنين الماضي (9/4/2012) ادعى فيه أن المرحلة تقتضي الاعتماد على القطاع الخاص، مبررا ذلك بعدم قدرة الدولة على الوفاء بما هو مطلوب لتمويل خدمات الكهرباء والمياه، وعدم كفاية مواردها اللازمة لذلك، وهو هنا يكرر جرائم مبارك الذي سمح بوضع إمكانية رجل المال والأعمال فوق إمكانية الدولة، وهو نفسه الذي يعتمد على الدولة في التمويل وتقديم التسهيلات اللازمة من أموال دافعي الضرائب ومن مدخرات المواطنين، يبددها ثم يسلمها لقمة سائغة للاحتكارات الأجنبية والمؤسسات المالية الصهيو غربية باسم الاستثمار. ومعنى ذلك إبقاء مصر على حالها محتلة سياسيا، وخاضعة للمتحكمين في اقتصاديات الاحتكار، وعليها أن تسلم بشروط صندوق النقد الدولي والمصرف الدولي للإنشاء والتعمير، سبب بلاء العالم النامي وأساس إفقاره وإضعافه وتفكيكه.
كان الحكم السابق يقوم على العمالة المباشرة لواشنطن وتل أبيب أما الحاكم المحتمل فسوف يجمع بين التجارة والحكم، وبجانب الرئاسة يتربع على عرش أباطرة المال ”الإسلامي“، عبيد نفس السادة بالطريقة ”الإسلامية الحلال“.. كما في الجزيرة العربية وفي إمارات ومشيخات الخليج، معتمدين على تأويل النصوص المقدسة وإخراجها من سياقها بعيدا عن معانيها وعلى العكس من مراميها فيسهل توظيفها لحماية مصالح سادة الاحتكار الدامي وأباطرة المال الجدد!.
وشرائع السماء تقول بغير ما يسعى إليه، وهذا أثبته ذلك أحد رموز الإسلام السياسي في سورية، وقد استشهدت بأقواله في مقال سابق عن نظرته للعدالة الاجتماعية، وهو المراقب العام الراحل لجماعة الإخوان المسلمين مصطفى السباعي، وقد استعمل القياس لتحريم الرأسمالية، وقال على ما أذكر إن الإسلام وهو يُحرّم الربا فإنه بذلك قد حرّم الرأسمالية، وأسعى في البحث عن نسخة من كتابه وإعادة طباعته، ليرى المصريون والعرب فكرا آخر ظهر منذ أكثر من خمسين عاما، وكان متقدما فراسخ وأميال عن أفكار وأراء قادة الإسلام السياسي المعاصرين، خاصة الصقور والتكفيريين منهم، ويقودهم في هذه المرحلة الشيخ محمد بديع، الذي لم يجد ما يكفر به جمال عبد الناصر في انحيازه للفقراء ومتوسطي الحال إلا الاشتراكية، وجعلها المرادف الإخواني ”البديعي“ للكفر، وإذا كان منطق التكفير بهذا المستوى، فمعنى ذلك أن مصر مقدمة على أيام ”أسود من قرن الخروب“ كما نقول في مصر!.