بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
دفعة واحدة ومن دون سابق انذار ينقلب نوري المالكي الى ضده، فبعد ان كان المدافع الاول عن بقاء قوات الاحتلال في العراق، يتحول بين عشية وضحاها الى مطالب بجلائها أو وضع جدول زمني لانسحابها، ثم يعلن في مناسبات اخرى رفضه التوقيع على المعاهدة الاستعمارية،وهو الذي مهد لها ووافق على بنودها العلنية منها والسرية.ولتسويق المالكي بهيئته الجديدة كـ بطل وطني،ساهم البيت الابيض والبنتاغون في هذه المسرحية البائسة،ولا نعني هنا فقط ما صدرعنهما من تهديد ووعيد بازاحته عن السلطة،فالاعلام الامريكي دخل في هذه اللعبة بكل ما يملك من فنون الدعاية وصناعة النجوم.صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية اعلنت قبل ايام وبالتزامن مع تصريحات المالكي،"بأن العراق والولايات المتحدة إتفقا من خلال دائرة تلفزيونية جمعت بوش والمالكي على تأجيل البحث والتفاوض بشأن الاتفاقية الاستراتيجية بين البلدين إلى ما بعد إنتهاء ولاية بوش وتوقيع وثيقة الجسر بدلاعنها،وهي وثيقة محدودة في أفق زمني محدود،وتسمح للأمريكان أن يقوموا بعمليات عسكرية ذات طابع محدود بغض النظرعن قرارالأمم المتحدة الذي فرض سحب القوات الأمريكية نهاية العام الحالي"، وأشارت الى أن الطرفين رحبا بإنسحاب المجموعة الأخيرة من القوات الأمريكية حسب ما كان مخطط لها هذا الشهر،ثم تغيير وضع ما يتبقى من القوات من كونها قوات مقاتلة الى قوات تدريب وتأهيل وتقديم المشورة للقوات العراقية". ولم يبقى امام الصحيفة سوى القول بان الامام المهدي المنتظر عليه السلام قد عاد بصورة المالكي ليقاتل الدجال بصورة بوش ويملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما.
لا يجد المرء صعوبة في تشخيص الهدف المزدوج من كل هذه المسرحية،فهو في جانب منه، اقناع العراقيين بوطنية المالكي على امل قبلولهم بالمعاهدة بعد توقيعها من قبله مستقبلا،وفي الجانب الاخراقناع الشعب الامريكي بجدية بوش لجهة الانسحاب لحرمان اوباما مرشح الحزب الديمقراطي للرئاسة باستخدام ورقة الانسحاب ضد المرشح الجمهوري ماكين. هذه الحقيقة جرى تجاهلها من قبل البعض منا،وظنوا بان ما يحدث يحتمل الصواب، وعزوا ذلك الى المازق الذي تعاني منه قوات الاحتلال وعجزها عن انهاء المقاومة العراقية، وهذا يتعاكس مع الوقائع والادلة الملموسة.
فعلى المستوى العسكري،فان ما يجري على الارض يثبت بان المحتل قد اعد العدة للبقاء ابد الدهر،وليس للرحيل او حتى التفكير به، ويكفي الحديث عن مواصلة بناء القواعد العسكرية اضافة للقواعد الـ 14 المتحققة والتي شملت طول البلاد وعرضها والربط فيما بينها بـ 145 موقع عسكري.وحسب وصف جارلس هالي مراسل جريدة تورنتو ستار الذي مكث في عدد من هذه القواعد العسكرية لمدة اسبوعين، فان هذه القواعد تتوفر فيها كل التسهيلات العسكرية واللوجستية ومحطات وموانئ ومطارات ومعسكرات ومراكز قيادة متقدمة لعمليات وحملات عسكرية مقبلة ومرائب للحوامات الهجومية والإستطلاع والنقل ولطائرات الإخلاء الطبي ولوقوف الطائرات المستعدة للأقلاع عند الطلب،وخص بالذكر ثلاث منها، هي قاعدة عين الأسد الجوية الواقعة في الصحراء الغربية،والثانية في مدينة بلد والثالثة في طليل في مدينة الناصرية، ووصف الحياة فيها بانها لا تختلف عن أي مدينة أمريكية،واضاف المراسل، وهنا بيت القصيد، بأن المهدنسين والميكانيكيين الأمريكان ابلغوه بأنهم باقون في هذه القواعد لأكثر من عشر سنوات أن لم يكن للأبد.
اماالسفارة الامريكية في العراق،فهي في عزلتها واستحكاماتها تشبه القلاع الصليبية او كانها مدينة كاملة، وتعد اكبر سفارة امريكية في العالم، حيث تعادل مساحتها ستة اضعاف مجمع الامم المتحدة في نيويورك وعشرة اضعاف السفارة الامريكية الجديدة التي يجري بناؤها في بكين،كما تعد ثاني اكبر المقرات الدبلوماسية الامريكية حجما،اضافة الى عشرين مبنى ملحق بها من ضمنها ستة مجمعات سكنية تضم 619 شقة.بحيث لا يجد ساكنوها سببا يحملهم على مغادرتها لما تحتويها من خدمات ومستلزمات الحياة العصرية.ويتباهى تشارلز ويليامزمدير الاعمال الانشائية لما وراء البحار في وزارة الخارجية الامريكية، بأن المبنى سيكون اكبر مقر للبعثات الامريكية على الاطلاق.
اما على المستوى النظري او التحليلي فان انسحاب القوات المحتلة من العراق طواعية لاي سبب كان يتعارض مع الاهداف الرئيسية التي قام الاحتلال من اجل تحقيقها،حيث ياتي في المقدمة منها توظيف العراق كحلقة مركزية في مخطط بوش ومن سيخلفه لبناء الامبراطورية الامريكية الكونية،ولا يغير من هذه الحقيقة الاهداف االمهمة الاخرى والمتمثلة في السيطرة على منابع النفط وحماية الكيان الصهيوني،فهي في المحصلة تصب في خدمة الهدف الامبراطوري. ومن دون جعل العراق مستعمرة امريكية وقاعدة عسكرية ضاربة،لا يمكن تحقيق الحلقات الاخرى لتحقيق الهدف المنشود،وابرزها بناء مشروع الشرق الاوسط الكبير،الذي يراد له ان يمتد من باكستان الى المغرب العربي لمنع قيام أي منافس لها على صعيد الدول الكبرى، ومنع قيام اي تكتلات قد تهدّد هيمنتها على العالم في المستقبل، وأن يكون لاميركا وجود عسكري في هذه المنطقة المهمة من العالم يمكنها من حسم اي معركة او ازمة قد تنشأ،وذلك من دون انتظار مجيء قوات جديدة من مسارح اخرى. وامام هذه الوقائع العنيدة فهل من الحكمة السياسية التفكير بامكانية تراجع امريكا عن هذا المخطط الجهنمي لمجرد المازق الذي تعاني منه قوات الاحتلال على الرغم من اهميته،اوفقط لتحقيق مكاسب انتخابية او تبيض وجه الحكومة العراقية الشديد السواد؟
قد يصوب البعض سهامه نحونا ويدعي بان كل شيء قابل للتغيير،خاصة وان بوش وقواته تعاني فعلا من مازق حرج يدعوه للبحث عن الخلاص بما يحفظ له ماء الوجه او وفق مبدا نصف الخسارة ربح،وعلى ضوء ذلك فانه من غير المستبعد ان يلتقي بوش والمالكي عبر دائرة تلفزيونية اخرى ليعلنوا فيها عن اتفاقية سحب القوات الامريكية وفق جدول زمني للانسحاب خلال عام او عامين. ونحن بدورنا لا نستبعد ذلك. ولكن اذا حدث مثل هذا الفعل، فلا يمكن فهمه الا باعتباره جزءا من مستلزمات الخديعة وتحويلها الى حقيقة. لو كان بوش يسعى فعلا الى انسحاب يحفظ له ماء الوجه،اليس من الاجدر به ان يقيم مثل هذا الاتفاق مع الجهة التي سببت له كل هذه المصيبة واعني بها المقاومة العراقية؟ هل وقع الرئيس نكسون اتفاق الانسحاب من فيتنام مع الحكومة التابعة له ام مع المقاومة الفيتنامية؟.
وما دمنا نتحدث عن اجواء التفاؤل، فلماذا لا نتحدث بالجملة وليس بالمفرد، فلدى البعض الاخر، تفسير لحالة التفاؤل هذه، حيث بوش اصبح محشورا في زاوية حرجة امام طلب المالكي بجلاء القوات،كونه اكد مرارا وتكرارا بقبول الانسحاب اذا طلبت الحكومة العراقية منه ذلك،ترى ما هو الثمن الذي سيدفعه المالكي مقابل الانسحاب؟ام ان المالكي بلغ من القوة بحيت لايقبل باي شرط؟ بالتاكيد سيكون الثمن توقيع المالكي على المعاهدة ان لم يكن وقعها فعلا. في حين تعد هذه المعاهدة مساوية للاحتلال العسكري،فبدل تواجد القوات في الشوارع وفي المدن بشكل سافر، فانها ستتجمع في الخمسين قاعدة التي ورد ذكرها في المعاهدة،وبحسبة بسيطة فان رقم 150 الف جندي امريكي في العراق سيظل على حاله اذا افترضنا وجود 3000 جندي على اقل تقدير في كل قاعدة.
ثم ماذا عن الاخرين في معسكر المتافئلين؟ انهم يقولون،بان التاريخ قدم لنا نماذج عن عبيد تمردوا على اسيادهم، لكن هل بمقدور المالكي الذي لم يحلم بهذا المنصب، مستعد لان يلاقي مصير رئيس حكومة فيتنام الذي اطاح به الامريكيون بانقلاب عسكري لمجرد تجاوزه الحدود المرسومة له؟. دعونا نفترض بان المالكي تمرد على ولي نعمته، ونفترض ان بوش ليس امامه سوى الوفاء بوعده دون مقابل،وسحب عشرة الاف جندي على سبيل المثال، اليس بامكان بوش التوقف عند هذا الحد تحت اي ذريعة كانت ويخرج من مازقه كما تخرج الشعرة من العجين؟ ام ان المتمرد العتيد اصبح لديه من القوة ما يمكنه من اجبار بوش على تنفيذ الاتفاق؟. واذا كانت هناك جهة او جهات رعت الاتفاق بما فيها الامم المتحدة،ترى هل بامكان هذه الهيئة المعاقة فرض العقوبات على بوش اذا اخل بالاتفاق،وهي التي صمتت امام احتلال العراق على الرغم من كونه شكل خرقا لكل القوانين والاعراف الدولية وعلى راسها ميثاق الامم المتحدة؟ ام ان ماحدث هو العكس تماما حيث شرعنت الاحتلال وحكومته وانتخاباتها المزيفة؟
لنغير الاتجاه قليلا وندخل في رحاب العقلانيين الذي يعتقدون بامكانية التوصل الى اتفاق عقلاني ايضا بين المالكي وبوش، فتيمنا بشعار النفط مقابل الغذاء، فانه بالامكان ان يكون الشعار بين الطرفين الانسحاب مقابل المعاهدة، اليس ذلك تلاعبا بالالفاظ وتزويرا للحقائق؟ اليست المعاهدة هي تابيدا للاحتلال؟ ثم اين هو الرقم الصعب في معادلة الصراع على ارض العراق ونعني به المقاومة العراقية؟
هذه المقاومة التي قاتلت طيلة هذه السنين وقدمت كل هذه التضحيات الجسام، لن تستبدل الاحتلال السافر باحتلال مستتر، بل لن تقبل بوجود قاعدة عسكرية واحدة على ارض العراق حتى وان كانت غير فاعلة، فشروط المقاومة واضحة ومعروف عنوانها، الانسحاب دون قيد او شرط وبدونه لا صلح لا هدنة لا مفاوضات مع المحتل؟ ليس هذا فحسب فالمقاومة لن تتغاضى عن مؤامرة كهذه على الاقل كونها تشكل خطورة على معسكر المقاومة ذاته، فالتغاضي سيولد ارباكا في صفوف العراقيين وهم حصن المقاومة وسياجها المنيع، وسيدفع بالمقابل بعض القوى الوطنية المحسوبة عليه،والتي طالما حلمت بانهاء المقاومة بالوسائل السلمية،الى التورط باجراء مساومات او مفاوضات عبثية مع المحتل.
لا يساورنا ادنى شك في ان المقاومة العراقية ستعتبر هذه الصفقة خيانة وطنية وقومية كبرى تستلزم تصعيد وتوسيع العمليات العسكرية والفعاليات الشعبية ضد الاحتلال وحكومته العميلة.
لكي لانطيل اكثر، فخلاصة القول فانه لا الانسحاب الجزئي والمفبرك ولا استبدال المعاهدة باتفاقية الجسرتنهي الاحتلال، فالعراق احتل بالقوة ولن يتحررالا بالمقاومة الشاملة والمستمرة.هذه هي الحقيقة التي لا ياتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.