مسألة أمن وطني وقومي
السيد زهرة
تحدثت في العمودين السابقين عن محنة الصناعة الوطنية في مصر والوطن العربي، وكيف انتهى الامر مثلا بصناعة وطنية مثل صناعة المياه الغازية الى شبه الانقراض. وقلت ان هذا الذي حدث يصعب فهم منطقه او تبريره وفقا لأي فكر سياسي او اقتصادي رشيد.
نعلم ان هذا حدث في ظل سيادة فكر الاقتصاد الحر وسياسات الأسواق المفتوحة وتشجيع الاستثمارات الاجنبية، وما ارتبط بهذا ايضا من عمليات خصخصة المشروعات العامة. نفهم الحديث عن اهمية تشجيع الاستثمارات الاجنبية وتقديم التسهيلات المناسبة لجذبها.
ولكن لا يمكن ان نفهم علاقة هذا بالضبط بالسماح بتدمير وقتل صناعة وطنية.
وقد نفهم ايضا منطق التفكير في خصخصة بعض
المشاريع العامة المتعثرة او الخاسرة او التي على وشك الافلاس.
لكن كيف يمكن ان نفهم الاقدام على بيع شركة او مشروع وطني عام ناجح ويحقق ارباحا ويشغل آلاف العمال، الى القطاع الخاص بكل ما يترتب على ذلك من خسارة عامة ومن تشريد عمال كثيرين بالضرورة.
حقيقة الأمر ان الازمة برمتها نبعت من فكر سياسي واقتصادي مختل ساد في الدول العربية في العقود القليلة الماضية. جوهر الخلل فيه انه لم يعط أي وزن او اعتبار لاهداف استراتيجية جوهرية مثل التنمية المستقلة بكل ما يرتبط بذلك من ابعاد وطنية تتعلق بالسيادة والاستقلال.
وفي اطار هذا الفكر المختل، اصبح الفكر الرأسمالي وتطبيقاته في مجالات الاقتصاد هو النموذج الامثل الذي لابد بالضرورة ان يحتذى، ومن دون أي حساب لما هو ملائم او غير ملائم لاوضاع وظروف مجتمعاتنا العربية واحتياجاتها.
وكانت النتيجة كوارث اقتصادية وسياسية واجتماعية حلت بدولنا، ومن بينها ما حل بالصناعة الوطنية من دمار.
وقد دفعنا ثمنا باهظا، وما زلنا ندفعه بالطبع، من جراء ذلك.
اجتماعيا، ساد الفساد واستفحل وتفاقمت الفوارق الاجتماعية في مجتمعاتنا.
وسياسيا، اصبحت دولنا مكشوفة امام الاعداء ولا تمتلك مقومات السيادة الاقتصادية.
لو كان لدينا صناعة سلاح وطنية عربية مثلا، لما كنا في موقع ضعف هكذا امام اعداء الامة.
ولو كان لدينا صناعة غذاء وطنية عربية مثلا تسد حاجة الدول العربية، لما كنا قد اصبحنا عالة هكذا على الآخرين بكل ما يرتبط بذلك.
ولنا ان نتأمل مثلا هذا التطور الذي عايشناه في السنوات الماضية، فيما يتعلق بصناعة المياه الغازية الوطنية في دولنا التي تحدثت عنها.
منذ سنوات، عندما انطلقت على نطاق واسع حملة الدعوة الى مقاطعة السلع والمنتجات لبعض الدول الاجنبية التي تدعم العدو الصهيوني، او التي شاركت في جريمة الاساءة إلى الرسول الكريم.. حين حدث هذا، وارادت قطاعات واسعة من المواطنين في كل الدول العربية بشكل حماسي وصادق ان تشارك في الحملة، وارادت في هذا السياق ان تقاطع منتجات المياه الغازية الاجنبية المعروفة، تلفت المواطنون حولهم بحثا عن بدائل وطنية، فلم يجدوا.
كانت هذه مأساة وطنية وقومية عربية بحق لو تأملناها.
على اية حال، اثرنا هذه القضية الآن لسبب. الأزمة الاقتصادية العالمية التي عصفت بالعالم كله في الاشهر الماضية، دفعت كل دول العالم كما نعلم الى اعادة النظر في فكرها الاقتصادي والسياسات المرتبطة به. رأينا كيف ان الدول الغربية التي هي المعاقل الكبرى للفكر الاقتصادي الرأسمالي الليبرالي، لم تتردد في الاقدام على خطوات واجراءات اصلاح جذرية، كالتأميم مثلا.
هذا الذي يجري في العالم من المفروض ان يكون دافعا كي تفيق حكوماتنا ايضا وتعيد النظر جذريا في السياسات الاقتصادية التي اتبعتها. وفي القلب من هذا، من المفروض رد الاعتبار الى الصناعة الوطنية والنهوض بها.
هذه قضية كما قلت لا تتعلق بمجرد اصلاح اقتصادي فقط. هي قضية امن وطني وقومي عربي. ويجب النظر اليها على هذا الاساس.
ولعل افضل من عبر عن هذا هو الدكتور جودة عبدالخالق، وهو اقتصادي مصري عربي كبير معروف. قال في التحقيق الذي اشرت اليه في العمود السابق: "ان استعادة زمام الصناعة الوطنية في مثل هذه الظروف اقرب الى الفريضة لدواع عدة، اهمها الأمن القومي والاستقلال الوطني، والعزة والكرامة الوطنية. ولكي نفعل ذلك، فلابد من اعادة النظر في الفكر السياسي الذي افرز هذه السياسات الاقتصادية التي تنطلق من مقولات مثل، العالم قرية صغيرة والعولمة والكوكبة وغيرها من مصطلحات التبرير. والواقع والواضح ان هناك سمكا كبيرا، وسمكا صغيرا عليه اعادة تشكيل وجوده".