قاسم حسين
كنا نكتب منذ سنوات عن التجنيس والأراضي والمال العام وتدمير البيئة باستمرار، كونها مشاكل مزمنة لا تجد حلاً، وتتعلق بمستقبل الوطن والمصلحة العامة لجميع المواطنين.
إلا أن موضوع ضحايا مرض فقر الدم المنجلي (السكلر)، لا يمر شهر دون التطرق إليه، كواجبٍ ووجعٍ إنساني، حيث ترى هذه الفئة المبتلاة تتعرّض للموت بوتيرةٍ متسارعة، دون اكتراث من الجهات الرسمية التي تكتفي بالتصريحات الفارغة في أحسن الحالات.
حين بدأت الكتابة في هذه الزاوية، قبل أكثر من اثني عشر عاماً، كان عدد ضحايا السكلر 24 سنوياً، بمعدل ضحيتين كل شهر. وفي العام 2007، ارتفع المعدل الشهري إلى ثلاث ضحايا، والعام الماضي وصل إلى أربع ضحايا في الشهر، وهي حقيقةٌ تدل على فشل ذريع. ولو حدثت هذه الكارثة في بلد آخر لقدّم الوزير استقالته، أما وزير الصحة عندنا فالأمر كما يبدو، لا يعنيه!
قبل سبع سنوات، استقال وزير الصحة الفرنسي بسبب وفاة عددٍ كبيرٍ من كبار السن في المستشفيات الحكومية بصورة غامضة، وحين جرى التحقيق تبيّن أن هناك نقصاً كبيراً في عدد الممرضات بسبب السماح لهن بالخروج في إجازة الصيف، ما أدّى إلى تدهور الرعاية الصحية ووفاة ذاك العدد الكبير.
ليست المسألة غياب ثقافة الاستقالة في منطقتنا، ففي الكويت وهي على مرمى حجر، استقال وزير الصحة قبل سنوات قليلة لحدوث حريقٍ في أحد المستشفيات، متحمّلاً المسئولية الأدبية، مع أنه لم يتسبّب شخصياً في الحريق. الضمير المهني دفعه للانسحاب، أما نحن، فالوزراء الذين تعاقبوا على كرسي وزارة الصحة، وما حدث تحت أيديهم من تقصيرات وبلايا، لم يمتلك أيٌّ منهم الشجاعة لتحمل مسئوليته وتقديم استقالته، وخرجوا جميعاً إقالةً.
موضوع مرضى السكلر ليس فيه من جديد غير تجدّد الأحزان والمآسي، لكتلةٍ بشريةٍ كبيرة، تُقدّر بـ 18 ألف مصاب، غير عشرات الآلاف من حاملي المرض، والجميع بات يدرك أبعاد هذا المرض وما يسبّبه من آلام مبرّحة وعذابات. وما يزيد المأساة أن المرض كان يخضع للتحكّم فيما مضى، إلا أنه أفلت من عقاله في الأعوام الثلاثة الأخيرة، في عهد الوزير الجديد وطاقمه الإداري، وارتفع عدد الضحايا بشكلٍ يثير الكثير من علامات الاستفهام.
وزارة الصحة تعاملت بكثيرٍ من الاستخفاف بعذابات المرضى وعوائلهم، ولم تكترث بإجراء أية تحقيقات جادة ومسئولة، رغم معرفتها بارتفاع حصيلة ضحاياها. وحين دشّنت ما سُمّي بـ «البروتوكول» قبل عامين، عارضه المعنيون، (جمعية رعاية مرضى السكلر) وحذّرنا من عواقبه في عدة مقالات، لكن الوزارة مصابة بالصمم الإرادي، فلم تكترث بمراجعة بروتوكولها المزعوم، وها نحن نحصد المزيد من الضحايا والمآسي البشرية.
اليوم، ومع مطلع العام الجديد، سجّل حتى الآن سقوط 14 ضحية، ونحن لم نكمل الأسبوع الأول من مارس، ما يعني أننا أمام معدل جديد يمثل كارثة وطنية: سقوط ستة ضحايا شهريا، وهو معدلٌ غير مسبوق في تاريخ المرض، فماذا يعمل وزير الصحة؟ وبماذا سيبرّر طاقمه الإداري هذه الكارثة؟
الملهاة في الأمر، أن آخر الضحايا هو عضو مجلس إدارة جمعية مرضى السكلر السيد محمد الكامل، الذي أدخل المستشفى، في الأول من مارس، ليقضي نحبه بعد أربعة أيام في قسم الطوارئ أمضاها بانتظار سريرٍ في قسم العناية المركزة، في بلد نفطي. مآسٍ وضحايا بالجملة كما قال عنهم الشاعر القديم:
وكانوا رجاءً ثم صاروا رزيّةً…
لقد عظمت تلك الرزايا وجلّتِ
نسأل الله لهم الرحمة، وأن تشعر وزارة الصحة بالذنب وتأنيب الضمير.