ليس من شك في أن الحركة القومية العربية قد ووجهت بعثرات وإخفاقات، منذ نكسة الخامس من حزيران عام 1967، حين تمكن الكيان الصهيوني من احتلال شبه جزيرة سيناء بأكملها، ومرتفعات الجولان والضفة الغربية، والقدس الشرقية في خمسة أيام. لقد اعتبرت تلك النكسة، عربيا نهاية لمرحلة النضال الوطني لتفكيك المشاريع الاستعمارية، وبداية حقبة جديدة تعتمد على تقديس الدولة القطرية، ومغادرة التوجهات الوحدوية.
اللافت للنظر أن الجميع قبل بفكرة التحقيب، وبأن تداعيات النكسة هي نقطة تحول رئيسية في التاريخ العربي، من المشروع النهضوي الذي ساد منذ المنتصف الثاني للقرن التاسع عشر، حتى عشية إعلان النكسة، إلى مرحلة القبول بالأمر الواقع، والتفاوض مع الكيان الصيهوني الغاصب من أجل التوصل إلى حل سياسي، تستعيد فيه الأنظمة العربية، الأراضي التي فقدتها في حرب 1967م، بدلا من اعتماد المواجهة العسكرية، واعتبار الصراع مع الصهاينة، صراعا حضاريا، وليس صراع حدود.
إن مناقشة العثرات والإخفاقات التي تعرضت لها مسيرة النهضة العربية، تقتضي خطابا جديدا، وقراءة جديدة لأسباب تعثر هذه المسيرة، تتجاوز جلد الذات، وتنطلق من رؤية موضوعية، تضع الهزيمة في سياقات تاريخية صحيحة. وتحاول الكشف عن الأسباب الحقيقية التي عصفت بمشاريع النهضة، وأودت بها.
ليس منطقيا أو مقبولا، تعليل عثرات الحركة القومية وإخفاقاتها، بنتائج النكسة. فكثير من الأمم مرت بهزائم ونكسات عسكرية، وجرى احتلال بلدان بالكامل في الحربين الكونيتين، كما حدث لفرنسا وبلجيكا وهولندا، وكثير من البلدان الأوروبية، ومع ذلك لم تشمل المراجعة النقدية مشاريع النهضة في تلك البلدان. لم يقل أحدا إن المشروع الليبرالي الغربي، أو ممارسة الديمقراطية، المعتمدة على الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، هي سبب وصول الحزب النازي إلى الحكم، وأنها والحال هذه هي المسؤولة عما آلت إليه الأمور.
بقيت أمم أوروبا تمارس خياراتها السياسية التي كانت سائدة قبل الحرب، ولم تشمل قراءات وتحليلات بروز ظاهرتي الفاشية والنازية في تلك الحقبة، مراجعة لمرتكزات النظام الرأسمالي في الغرب أو الاشتراكي في الشرق. لم تستمر فترة المراجعة التي أعقبت الحرب الكونية الثانية طويلا، بل انطلقت أمم أوروبا نحو تشكيل وحدتها الأوروبية، بدءا من السوق الأوروبية المشتركة، إلى قيام الاتحاد الأوروبي في مراحل لاحقة.
وشهد العالم حربا باردة، بين الشرق بقيادة الإتحاد السوفييتي والغرب، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، هي في حقيقتها تعزيز للخيارات السياسية التي كانت سائدة من قبل.
هذه المقدمة، تقودنا إلى قراءة مغايرة لأسباب العجز الذي عانت منه أمتنا خلال الخمسة عقود المنصرمة. قراءة ينبغي أن تسهم في تخطي التشرنق في الاستنتاجات النمطية، التي ترجع تعثر مشروع النهضة، إلى فشل أداء الحركة القومية في معركة المواجهة مع الكيان الصهيوني. مع أن محطات صراعنا مع الكيان الغاصب، لم تكن دائما هزائم متكررة، بل شهدت كرا وفرا، كسبنا معارك عديدة، وخسرنا أخرى.
فشل المشروع النهضوي إذا، ينبغي قراءته بشكل مغاير تماما، لما جرى تنميطه، بحيث لا يتم اختزاله في حادثة تاريخية مجتزأة، وبشكل مجرد عن الصيرورة التي حكمت مسار الحركة القومية، منذ انبثاقها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حتى يومنا هذا.
وفي كل الأحوال، ينبغي دائما أن نستحضر المحطات المضيئة في صيرورة هذا الكفاح لأن تلك المحطات رصيدا للأمة بأسرها، وعامل استنهاض لها أثناء مواجهتها للمخاطر والتحديات والمحن، شرط أن لا تشكل عبئا على حركة النهوض، ومحاولات الخروج من التشرنق وحالة الانسداد التي تواجهها مشاريع النهضة.
لقد كان من ضمن المعضلات الرئيسية التي واجهها الفكر القومي العربي، هي أنه كان دائما خاضعا لقانون التحدي والاستجابة… حسب منطلق المؤرخ البريطاني، أرنولد توينبي، ولأن التحدي الكولونيالي، كان حالة مستمرة لم تترك فسحة للمراجعة، كان الفكر القومي يلهث باستمرار في محاولة تقديم أجوبة لمتطلبات اللحظة. فكان الفكر راهنيا باستمرار، كونه بقي يتعامل مع لحظة التحدي، دون استشراف للمستقبل. ولأن المقدمات كانت قلقة ومربكة، كانت النتائج دائما قلقة ومربكة.
فيما بين الحربين الكونيتين اكتشف حملة المشروع النهضوي، والذين صاغوا مقدماته النظرية، الحاجة إلى حاضن سياسي، يعمل على تحقيق تلك المقدمات. وما كان لهذا الجدل أن يجد بيئة أفضل ملائمة في الوطن العربي، من بلاد الشام. فمنذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر، غدا الإقليم مركزا لانبعاث اليقظة، ومنه انطلقت فكرة العروبة المعاصرة، وفيه حدثت أول مواجهة عسكرية بالمشرق العربي، مع الاستعمار الفرنسي في موقعة ميسلون. وكان من أكثر المناطق تضررا بالحدود التي رسمتها بريطانيا وفرنسا بموجب اتفاقية سايكس بيكو، التي قسمت مشرق الأمة، وفقا للأطماع الاستعمارية. وكانت النخب السورية قد بدأت، منذ وقت مبكر، رصدها عن قرب، تطبيق البرنامج الصهيوني، لاغتصاب فلسطين، بعد الشروع في تنفيذ وعد بلفور.
كان الجواب الذي قدمته تلك النخب، هو عصارة الجدل الذي استعر، فيما بين الحربين، وخلاصته أن الأمة العربية أكدت حضورها الإنساني، من خلال حادثة تاريخية هي بروز الدعوة الإسلامية، ونشوء الدولة العربية التي ارتبطت بتلك الدعوة. إن هذا الإنجاز لا يمس في جوانبه الإيجابية جزء من العرب، بل هو إنجاز لكل العرب، لأنهم وجدوا أنفسهم أمة واحدة من خلال هذه الحادثة، ومن خلالها أيضا تمكنوا من نشر رسالتهم الحضارية في مختلف أرجاء الكرة الأرضية. ولذلك فإنهم إذا ما أرادوا تحقيق تواصلهم الحضاري، فإن عليهم أن يستلهموا من ذلك الإرث محفزات في انطلاقتهم الجديدة.
جاءت التجربة الناصرية لاحقا، مع مطلع الخمسينيات من القرن المنصرم، لتلتحق بغمار هذا الجدل، ولتتضح هويتها، في خضم المعارك التي خاضتها، بدءا بكسر احتكار مبيعات السلاح، وتأميم قناة السويس، إلى مواجهة العدوان الثلاثي الغاشم عام 1956، وبناء السد العالي، حيث تنبهت لأهمية المشرق العربي، وبالتالي لأهمية الزخم القومي كرافد لها في معركتها الوطنية.. وكانت لحظة توجت بقيام أول وحدة بين قطرين عربيين في العصر الحديث.
لكن تلك التجربة ووجهت بنكسة الانفصال، وعلى الرغم من مضي خمسين عاما على الإعلان عن تلك التجربة، لم يشهد الوطن العربي تجربة أخرى مماثلة. ولم يعد مقبولا اعتبار القوى الامبريالية السبب المباشر في هذا الفشل، خاصة بعد وصول القوى التي ترفع شعارات الوحدة إلى السلطة في عدد من الأقطار العربية، في سوريا والعراق، وهما بمنطق التاريخ العربي، من أهم مراكز الإشعاع الحضاري في الأمة، إضافة لوجود نظام وطني، في مصر استطاع تحشيد الجماهير من حوله لما يقرب من حقبتين، عدى حضور الأنظمة التي ترفع هذه الشعارات، في نهاية الستينيات في الجزائر وليبيا واليمن والسودان. ومع ذلك فشلت كل المحاولات لتحقيق الوحدة.
هكذا يظل السؤال: لماذا فشل مشروع النهضة العربية، يصدمنا عند كل محطة في قراءتنا لحالة الانسداد التاريخي التي واجهها هذا المشروع، ملحا في طلب الجواب.
في هذا السياق يجدر التنبه إلى أنه على الرغم من أن كافة مشاريع النهضة العربية، اعتبرت قضية الوحدة الركن الأساس، فيها، فإن سياقات تحقيق هذا الهدف، وشكل الوحدة المنشودة كانت ولا تزال موضوعا خلافيا بين المفكرين العرب. لكن المؤكد أن المشروع القومي الوحدوي، في كل اتجاهاته، ارتبط بشحنات عاطفية ووجدانية حركت مشاعر الجماهير العربية في كل مكان لكنه عجز عن تحويل الحلم إلى حقيقة.
قيل في أسباب عجز المشروع النهضوي، أنه رومانسي، يستند على الذاكرة التاريخية، وقيل في المقابل، إن الأمم هي نتاج صيرورة تاريخية، وأن عناصر تكونها هي اللغة والجغرافيا والتاريخ، وأن المشكلة تكمن في قوة رسوخ الكيانات القطرية، وتجذر فكرتها، التي هي نتاج واقع التجزئة من وجهة نظر البعض، وأنها واقع موضوعي، سابق على الإحتلال الأجنبي من وجهة نظر البعض الآخر. ومع ذلك لم يخرج الجدل المحتدم، كما أشرنا في حديث سابق، ولا الحوارات الساخنة، حول موضوع الوحدة العربية والفكر القومي، في معظم الأحيان عن المماحكات اللفظية، والتصورات الذهنية. وكانت في نتائجها إفصاحا عن ارتباكات في الأجوبة، كما هي ارتباكات في الأسئلة، وتعبير عن تهاوي التنظير في مقدماته ونتائجه. وتبقى هذه الأسباب جديرة بالمناقشة، في أحاديث أخرى قادمة بإذن الله.