هل تتكفل المؤسسات الدستورية الثلاث: التنفيذية والتشريعية والقضائية بصنع القرار في الولايات المتحدة الأمريكية؟. على الصعيد النظري الجواب هو دائما بنعم، فالقرارات والمراسيم في النهاية تصدر بموافقة هذه المؤسسات. لكن ذلك لا ينبغي أن يؤخذ به كمسلمة، على علاته. لأن هذا التسليم، يعني أن لا فاعلية ولا جدوى للمؤسسات الأخرى، والتي يأتي في المقدمة منها مجموعات المصالح، كالإيباك والكنيسة والاتحادات المهنية ومؤسسات المجتمع المدني، والمجموعات المتنفذة في المؤسسات البيروقراطية. وجميعها تشكل عناصر ضغط قوية على مؤسسات صنع القرار.
لنأخذ على سبيل المثال لا الحصر، اتحاد المزارعين، ودوره في صناعة السياسة الأمريكية. تقرر الإدارة الأمريكية، على سبيل المثال، إلغاء صفقة بيع قمح لبلد ما، بسبب خلاف في الموقف السياسي، فيؤثر ذلك بشكل مباشر على مبيعات القمح. تجد الإدارة الأمريكية نفسها أمام خيارات صعبة، إما تعويض المزارعين عما فقدوه جراء إلغاء الصفقة، أو إيجاد أماكن أخرى، لتسويقها، أو مراجعة قراراتها السياسية، نتيجة للضغوط التي تمارسها اتحادات المزارعين. وقد تكررت هذه الحالات كثيرا في التاريخ الأمريكي. وأرغمت الإدارات الأمريكية المختلفة على التراجع عن قرارات اتخذتها، تحت وطأة تلك الضغوط.
يضاف إلى ذلك، أدوار قوى الكارتلات الاقتصادية الكبرى، التي تملك المال وامبراطوريات الإعلام الهائلة. إن الأموال التي تقدمها هذه الكارتلات لدعم الحملات الانتخابية للمرشحين للبيت البيضاوي، هي التي تتكفل بإيصالهم إلى سدة الرئاسة. وهذه المؤسسات لا تقدم شيكا على بياض، ولا تعمل شيئا قربة لوجه الله تعالى. إنها تتطلع، مقابل دعمها المالي والإعلامي، إلى أن يقوم الرئيس بمراعاة مصالحها، وتنفيذ برامجها، بحيث يتحول دوره في نهاية المطاف، إلى مقاول، مهمته تنفيذ البرامج التي أوكلت إليه، ولا يتعدى دوره ذلك.
وقد قيل الكثير، عن نهايات مأساوية لرؤساء أمريكيين، تمردوا على مصالح، قوى الضغط، وحاولوا أن يستمدوا قوتهم بشكل مباشر من الجمهور. وكانت نهاية الرئيس الأمريكي، أبراهام لينكولن مثلا حيا، في التاريخ الأمريكي على ذلك. فقد أقدم لينكولن على تبني قرار بإلغاء الرق، عرف بتحرير العبيد. وقيل أن الدافع لتبني تلك الخطوة، كان تلبية حاجة أرباب الصناعة في الولايات الشمالية، التي كانت بحاجة إلى أيد عاملة لتشغيل مصانعها. وجاء هذا القرار بالضد من مصالح الإقطاعيين في الولايات الجنوبية. فكان أن احتدمت حرب أهلية بين ولايات الشمال وولايات الجنوب، تمكن لينكولن من حسم الحرب لصالح وحدة أمريكا، ودحرت محاولة الانفصال، لكن الرئيس قد دفع حياته ثمنا لقراره الشجاع، حيث جرى اغتياله في وضح النهار، من قبل شخص مناهض لتحرير الرق.
في الحرب العالمية الثانية، تمرد روزفلت على مجموعات الضغط، واستمد قوته من الجمهور، وأصبح قائدا تاريخيا. آنذاك، أسهمت ظروف الحرب، والحاجة إلى قائد من نمط خاص، في أن يكون الرئيس الاستثنائي الذي يمدد له ثلاث دورات انتخابية، على غير ما هو مألوف. كما أسهمت ظروف الحرب أيضا في أن يفلت بجلده من محاسبة قوى الضغط، وتوفي وهو لما يزل في سدة الحكم.
لكن الأمر لم يكن كذلك مع نظرائه الذين أعقبوه في قيادة البلاد، والذين حاولوا أن يستمدوا قوة حضورهم من تأييد الجمهور. فقد كان نصيب الرئيس جون كنيدي، أن يصرع في ولاية تكساس بعد أقل من عقدين على وفاة روزفلت، وأن يضيع سر اغتياله معه، حتى يومنا هذا. وكان نصيب الرئيس ريتشارد نيكسون، الذي فاجأ قوى الضغط بقرارين تاريخيين استراتيجيين: الانسحاب من فيتنام، والانفتاح على الصين الشعبية هو فضيحة ووترغيب التي أطاحت به، بعد أن أطيح بنائبه من قبل، ولتسلم رئيس الكونجرس الأمريكي، جيرالد فورد رئاسة الجمهورية، في واحدة من الحالات النادرة في التاريخ الأمريكي.
لن نتحدث عن حالات أخرى، معروفة وشهيرة، أدت إلى انسحاب مرشحين من الحملة الانتخابية، بسبب فضائح جنس وفساد، كما حدث لجاري هارت. وليست حادثة الرئيس الأمريكي، بيل كلينتون مع مونيكا لوينسكي الشهيرة ببعيدة عن الذاكرة، وكانت تلك مجرد "قرصة إذن"، من قبل قوى الضغط، لتذكير الرئيس بالقوة الهائلة التي تملكها مجموعة المصالح، وما يمكنها القيام به، في حالة تمرده على القوى التي أوصلته إلى البيت الأبيض.
وبالتأكيد فإن للمؤسسات الإعلامية، هي الأخرى، دورا لا يستهان به في تشكيل أدمغة الأمريكيين وتوجيه أصواتهم إلى حيث تخدم في نهاية المطاف مصلحة قوى الضغط. ويمكن أن تستخدم السبب ذاته في ترجيح أو تقليص كفة فوز المرشح في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية. ولعل المثلين الفاضحين في هذا السياق، هما انتخاب رونالد ريجان للرئاسة في مطلع الثمانينيات من القرن المنصرم، وفشل روبرت دول أمام منافسه الرئيس كلينتون في دورته الرئاسية الثانية.
لقد روج الإعلام الأمريكي لريغان، باعتباره حكيما ورصينا، بسبب عمره الذي ناهز التاسعة والستين أثناء تنصيبه كرئيس للجمهورية. واعتبر انتخابه في ذلك العمر ترصينا للسياسة الأمريكية، وخطوة إيجابية يجدر الترحيب بها. نفس الإعلام انتقد ترشح روبرت بوب للرئاسة، عام 1996 بسبب تقدم عمره، مشيرا إلى أن تقدم العمر سيجعل الرئيس عاجزا عن الاضطلاع بتنفيذ مهام منصبه. وقد برع الإعلام في تصوير عجز بوب والتقط له صورة وهو يسقط من منصة مسرح، في إحدى حملاته الانتخابية. وكان للإعلام الدور الرئيس في خسارة بوب دول أمام منافسه بل كلينتون.
إنها إذن جملة من العناصر المركبة والمعقدة، التي يصعب الاستهانة بها، تسهم مجتمعة في صنع القرار الأمريكي.
من خلال وعي دور هذه المؤسسات، ومعرفة اتجاهاتها يمكننا قراءة أين يقف الرئيس الأمريكي، الحالي باراك أوباما بعد مرور عام على تنصيبه. هل تمكن أوباما فعلا الالتزام بشعار "التغيير"، الذي تصدر حملته الانتخابية، وقد كان للشعار فعل السحر، والدور الأكبر في إيصاله للمكتب البيضاوي.
الإجابة على السؤال، تقتضي فهم الظروف التي أوصلت أول رئيس ملون إلى البيت الأبيض، والقوى التي ساندته ومكنته من النجاح في حملته الانتخابية، والأزمات السياسية والاقتصادية التي عانت منها الولايات المتحدة بسبب سياسات خلفه. وفي المقدمة من تلك الأزمات، عدم قدرة الإدارة الأمريكية السابقة، على حسم الوضع في أفغانستان، وتحقيق الاستقرار في العراق، وهما بلدان محتلان، في مرحلة تاريخية شهدت أفول الاستعمار التقليدي، واعتباره منافيا للأخلاق وشرعة الأمم. يضاف إلى ذلك، أزمة اقتصادية غير معهودة منذ الكساد الكبير، الذي حدث في عام 1929، وتسببت نتائجه في اندلاع الحرب العالمية الثانية.
ولعل أفضل مقاربة لنجاح أو فشل الرئيس أوباما في الالتزام بشعار التغيير الذي وعد به، هي قراءة خطابه أثناء التنصيب، وخطابه الأخير المعروف بخطاب الاتحاد، الذي اعتاد الرؤساء الأمريكيون تقديمه كل عام، مقدمين خلالهم حصاد عملهم في العام المنصرم من فترة حكمهم.
هذه المقاربة ستكون موضوع حديثنا القادم بإذن الله تعالى.