محنة الإسلاميين
عبد الحليم قنديل
قد يصح أن نندهش من المندهشين لفوز الإسلاميين في الانتخابات العربية الجارية، فقد فازوا بنسبة 40% في تونس، وفازوا بنسبة أقل في الانتخابات المغربية الأخيرة، ويفوزون بنسبة مكتسحة في الانتخابات المصرية الجارية، وليس في ذلك مفاجأة سياسية من أي نوع، فالنتيجة ذاتها مرجحة في أي قطر عربي قد تجري به انتخابات الآن.
وقد نخاطر بتوقع ما سيجري بعد الفوز الانتخابي الكبير للإسلاميين، فسوف يحكم هؤلاء في الأقطار العربية، سوف يشكلون الحكومات، وربما يصنعون الرؤساء، ولكن دون مقدرة ظاهرة على إحداث فارق حقيقي، سوف يراهم الناس في كراسي الحكم، وهم أكثر براجماتية وأقل مبدئية، ولن يكون بوسعهم تقديم حلول جذرية، بل وربما تتفاقم أزمات الاقتصاد والمجتمع مع حكمهم، وتنخفض شعبيتهم باطراد، وتتراجع نسب فوزهم في الانتخابات اللاحقة، هذا كله متوقع “إلا إذا”.
و“إلا إذا” هذه هي التحدي الأكبر الذي يواجه الإسلاميين، فالثقافة التي يحملونها معادية بطبيعتها للتغيير والتنمية والتحديث، وهنا لا يمكن التعميم بذات القدر، فحركة النهضة في تونس تبدو أنضج بكثير، بينما تبدو التفاعلات الداخلية في جماعة الإخوان المصرية أكثر تعثرا، ويبدو “حزب العدالة والتنمية” الإسلامي المغربي في حالة وسطى، وخارج الجماعات الإخوانية المنشأ تبدوا المشكلة أكبر، يبدو السلفيون المصريون مثلا في حالة بدائية وصحراوية تماما، أفكارهم تخاصم العصر بالجملة، وأراؤهم تثير العجب، والفزع، ومن نوع منع نشر صور مرشحاتهم، وإحلال صور أزواجهن محلها، أو وضع وردة مكان الصورة، أو ستر الأهرامات والآثار ببطانيات، أو من نوع حل المشكلات الاقتصادية بالغزوات وجلب السبايا، أو من نوع جواز أكل لحم العفاريت، أو إلى غيرها من أراء وفتاوى غاية في الشذوذ، تخاصم العقل وصحيح الإسلام، وتوقعهم في التهلكة السياسية إن حكموا، وإن يكن هؤلاء ليسوا من النوع الإسلامي المرشح للوصول إلى الحكم الآن، فالجماعات الإخوانية على اختلاف مراحل تطورها أسبق قدما، وتنتظرها محنة الحكم، وربما لا ينجحون فيها “إلا إذا” تحولوا إلى شيء آخر تماما، أو أن يتحول عنهم الناس المقبلين عليهم الآن.
وليس صحيحا أن الإسلاميين لم يحكموا في العالم العربي من قبل، لا نتحدث هنا عن السعودية ونظم الخليج، ونظم الحكم فيها تقول أنها تحكم بالشريعة، والمحصلة كما نعرف، وقد يكون من الظلم أن نحكم على الإسلاميين العرب بفساد وتخلف النظم الخليجية، لكن الإسلاميين حكموا في أقطار عربية أخرى، وسواء كان هؤلاء من منشأ سني أو من منشأ شيعي، حكمت الأحزاب الدينية الشيعية في العراق بعد الاحتلال، وثبت أنها مجرد جماعات لصوص، وفي الصومال حكم الإسلاميون في السنوات الأخيرة، وكانت النتيجة مزيدا من هلاك وفناء الصومال، واشتعال الحرب الأهلية بين “المحاكم الإسلامية” إخوانية النزعة، و“حركة شباب المجاهدين” السلفية الأقرب إلى فكر تنظيم القاعدة، وفي السودان حكمت حركة حسن الترابي إخوانية المنشأ، وعلى مدى زاد إلى الآن عن عشرين سنة، والمحصلة كما ترى، تحسن اقتصادي طفيف، ومقابل تفكيك السودان، وتفكيك الحركة الإسلامية نفسها، وخروج الترابي نفسه إلى خلاء المعارضة، واستيلاء المشير البشير على غالب كوادر الحركة الإسلامية القديمة، ودمجها في نظام حكم لا يغرى أحدا بتقليده، وقد يقال أن هؤلاء الإسلاميين فشلوا لأنهم وصلوا للحكم بغير الطريق الديمقراطي، وهو اعتراض فيه بعض الصحة، وبرغم أنه يخالف دعاوى هؤلاء عن أنفسهم، وعن شعبيتهم الجارفة، وعن حكمهم بالشريعة طبعا.
المعنى: أن خرافة عدم تجريب حكم الإسلاميين لا أساس لها، وقد يكون وصولهم للحكم هذه المرة بالطريق الانتخابي فيه جديد، ولو كان في الشكل أكثر من المضمون، ومجرد الفوز الانتخابي للإسلاميين حدث لا يستهان به، ويثير المخاوف إلى حد الفزع عند قطاعات من الرأي العام العربي، بينما تبدو مخاوف الإدارة الأمريكية أقل، وهي ذات الإدارة التي دعمت نظم حكم يرثها الإسلاميون الآن، والمفارقة تحتاج إلى تفسير، وليس صعبا تبين حقيقة التفسير، فللأمريكيين مصالح دائمة لا أصدقاء دائمين، ولا يهمهم أن يكون الحاكم بذقن ثقيلة أو خفيفة، وعدا خلافات تبقى حول الموضوع الإسرائيلي، تبدو الإدارة الأمريكية مطمئنة تماما لحكم الإسلاميين، والسبب ظاهر، فهؤلاء الإسلاميين أقرب لشريعة السوق، وإن أطلقوا على اقتصاد الخصخصة اسم الاقتصاد الإسلامي، وقد توالت ظواهر ترحيب الأمريكيين والأوروبيين بفوز الإسلاميين، وبدأت جولات الحوار النشيط، وتوالت الأحاديث عن خيبة الليبراليين، وعن “ليبرالية” الإسلاميين المتزايدة، فهؤلاء الأخيرون- براجماتيون جدا، وما يكون حراما في دهر يتحول إلى حلال زلال في ثانية، وهم قوة يمينية بامتياز، لكنهم أكثر حيوية بمراحل من اليمين الليبرالي ذي المنشأ الفكري الغربي، واستفادوا في صعودهم من ظروف استجدت على مسرح العالم والمنطقة، استفادوا من الانقلاب في مصر بالذات على مشروع النهضة والتصنيع والتنمية والتوحيد وعدالة التوزيع، وتحول المجتمعات العربية من طبقات وفئات إلى غبار بشري، وسيادة مشاعر البؤس واليأس، والانقطاع عن سباق العصر، وقد خاطب الإسلاميون بؤس المجتمع كجمعية خيرية، كما خاطبوا يأس المجتمع كجمعية دينية، ولم تكن نظم الحكم العائلي تمانع في الدعوة الدينية، ولا في العمل الخيري، وهو ما أدى لتضخم أدوار وموارد المجموعات الدينية على اختلافها، فقد تضخم دور الكنيسة المصرية في الفترة ذاتها التالية على تصفية المشروع الناصري، كما تضخم دور التيار الإسلامي، وانتفخت عضلاته المالية والتنظيمية خلال أربعين سنة مضت، وكان طبيعيا مع كسر القيود على حريات السياسة، كان طبيعيا أن يجري التصريف السياسي لطاقة هائلة اجتمعت من موارد دينية وخيرية، وأن يبدو فوز الإسلاميين قدرا لا فكاك منه في أول انتخابات تجرى، لكنه الفوز الذي يقود إلى اختبار، أو إلى محنة، لا نقصد هنا محنة المجتمع، بل محنة الإسلاميين الفائزين بالذات، محنة التكيف مع تجربة حكم مراقب ديمقراطيا وشعبيا، محنة الامتحان العملي، وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان.