الدكتور عباس العزاوي
استوقفني وأدهشني حوار في إحدى الفضائيات الخليجية مع أحد أساتذة جامعة (أم القرى)، وهو من القطر السوداني الشقيق، وكانت (فتوى) هذا الرجل فحواها: أنَّ العروبة ليست بجنس أو عرق أو نسب، وبالتالي فهي ليست بـ (قومية)!! وانَّما العروبة ليست سوى لسان ولغة للتخاطب والتفاهم!! ويستند في فتواه العرجاء الخرقاء الى حديث موضوع على رسول الأمة، رسول أمة العرب الهاشميّ القَرَشيّ، حيث يزعم هذا الرجل أنَّ الرسول قال فيه: (يا أيُّها النَّاس انَّ الدِّين واحد والأب واحد، وليسَت العربية بأحدكم من أبٍ ولا أمٍ وانِّما هي اللسان، فمَن تكلَّم بالعربية فهو عربي)!!، وحاشا لرسولنا الكريم أنْ يكون هذا هو قوله، وهو ابن العروبة ورسول الحقّ سبحانه الى العالم أجمعين. ولا يمكن لهذا الحديث أنْ يكون صادراً عن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أوتي جوامع الكَلَم، لا يمكن أنْ يصدر عن رسول الهدى العربي الأميّ. لا أدري كيف لهذا الرجل أنْ يستشهد بحديث ضعيف جداً؟!.
ومن الغرابة بمكان أنَّه يعتمد (ابن فارس) في حجته على أنَّ العربية ليست عرقاً أو عنصراً محدداً، ونحن نعلم أنَّ ابن فارس فارسيّ المولد والوفاة وله ميول فارسية، وقد تأثَّر بالرواية الفارسية للتاريخ العربي! وأنا شخصياً لست مع ابن فارس لا في اللغة ولا تاريخها ولا جنسها. وأمَّا الاستشهاد ببعض الآيات القرآنية مُجتزأةً، كما فعل صاحب هذه النظرية الباطلة والمفتراة، فهو مِن باب كلمة حقٍّ يراد بها باطل، تَنَزَّه كتاب الله تعالى عن كل نقيصة أو باطل، وأمَّا القول بأنَّ القرآن لا يستعمل لفظة (عرب) للدلالة على أُمَّة أو قوم أو جنس مُعَيَّن، وأنَّ كلماته تدل على اللغة فقط، فهذا ليس صحيحاَ فقد ورد في القرآن لفظ الروم للدلالة على عدة أقوام، وكذلك كلمة أعجمي للدلالة على ما هو غير عربي، وفي كل الأحوال فإنَّ المعروف لا يعَرَّف، فليس كل مَن تحدَّث العربية عربي كما يفتي هذا الرجل، فهل كل مَن يتحدث الفرنسية هو فرنسي؟! وأنَّ كل مَن يتحدث التركية هو تركي؟! وهل نجد الشعب الأمريكي وهو يتحدث اللغة الإنكليزية هو انكليزي؟!.
فالعربية هوية قومية قبل أنْ تكون لغة ينطق بها مَن ينطقون، واللغة هي عمود الثقافة التي يتميز بها شعب من الشعوب أو الأمم، فالعربية ليست كالعِبرية التي هي لسان فقط وليست قومية، وانَّما هي لغة دين فقط، وكذلك اللغة السريانية التي لا تعني جنساً محدداً أو عرقاً بعينه بل هي أجناسٌ وأعراقٌ شتَّى.
أقول، أنَّ هذا (المُدَّعيّ) ومَن ينحو نحوه، كحاطب الليل الذي يدخل الغابة ليجمع الأخشاب ولكنَّه ربَّما يمد يده ويحمل ثعباناً دون أنْ يدري ظناً منه أنَّه قطعة من الخشب!.
كيف يمكن لمثقف ودارس في اللغة والتاريخ أنْ يتحدث بفم مليان وبنبرة (واثقة)، بأنَّ العربية هي لغة وحسب! يقول ذلك دون أنْ يهتزّ له ضمير أو يطرف جفن، فيدعي (باطلاً) أنَّ العروبة ليست لها علاقة بالهوية القومية! وانَّما هي لسان وحسب!، وبالتالي فهو يفصل بين اللغة العربية والعِرق، والعنصر العربي الذي تكوِّن ثقافته التي يتميز بها. ويبدو أنَّ هذا المتحدث (الجوَّال) يريد اكمال الدائرة التي بدأها كثيرون في محاولة النيل من القومية العربية، وهو ادِّعاءٌ باطٌلٌ، وترويجٌ لأكذوبة كبرى بإعتبار العربية لغة لسان وتخاطب وليست ثقافة ومنهج مرتبط تاريخياً بأمة لها وجود وكيان منذ آلاف السنين. وهذه الافتراءات جزء من مؤامرة كونية تستهدف العرب في وجودهم، حاضرهم ومستقبلهم، وهؤلاء من أمثال هذا الرجل يتحججون بأساليب ملتوية وبطرق مبنية على التحايل في محاولة خبيثة لإيجاد ثغرات يمكنهم الدخول من خلالها، ويستخدمون فقهاً فاسد الأصل (فارسي) معوَّج الأركان والحجة ليسوِّغوا لأنفسهم الافتراء على القومية العربية.
الثرثرة والفوضوية في الكلام
انَّني أُسَّمي هكذا حديث بـ (فوضى الكلام)، الذي شاع بين الناس والمتعلمين منهم، وأصبح كالسيل يكاد يُغرق الدنيا!.
انَّ الأصل في المتكلم أنْ يتحدَّث فيما يفهمه أو هو متخصص فيه، أمَّا أنْ يطيش بلسانه هكذا دونما (ترويض) وضبط لهذا اللسان في أية قضية أو مسألة، فهذا أعتبره مِن نقصان (الثقافة) والعلم، وقد يعترض مَن يعترض على ما أقول، لكنَّني لن أُطيل انتظاره الإجابة فأُسرِع في القول، انَّ لكل مجال من مجالات الحياة قواعده وأسراره وأصوله، وأنَّ عدم ضبط الكلام يرجع الى قصور في التفكير وفهم الأمور، وقد يكون عائداً الى ارتباك في المفاهيم الأساسية التي تلازم البعض، وقد يكون عدم وجود بنيان قويم متماسك للمعلومات (الثقافة العامة). ومِن حق القارئ الكريم أنْ يتساءل عن الحلّ لهذه الاشكالية (فوضى الكلام)، وفي رأيي أنْ نفكر قليلاً ولو للحظات قبل أنْ نطلق الكلمات والتفسيرات (الهوائية) من أفواهنا، بمعنى أنْ نُمَرر حديثنا على العقل قبل أن نطلقه كقذائف المدفع! وبالتالي نتوقف ونهدأ قبل أن نُصدِر الفتاوى هنا وهناك. ويبقى علينا نحن المتلقون أنْ لا نصدق كل ما يُقال لنا، بل أنْ نضع جرساً للانذار في دماغنا، عندما نحس بدخان الكلمات (العرجاء) يكاد يملأ أدمغتنا، عندئذ نحرص على أنْ نجعل هذا الجرس يدُّق ويرِّن كلما طلع علينا مَن يبيع الكلام، كما يفعل صاحبنا هذا، وأنْ نعلم أنَّ هذه الأحاديث مجرد شطحات و (نفخات) كاذبة، وقد يقول هؤلاء الأدعياء أنَّهم أحرار يقولون ما يشاؤون ووقت أنْ يشاؤوا، ونحن لا نختلف معهم في هذا فهو حق مشروع ولكنَّه مشروط أيضاً! ذلك أنَّ الصدق في القول مقدماً على الحرية فيه، وأنْ يكون أميناً في النقل، قُل ما تريد ولكن دونما تجاوز حق أحد، فكيف في تجاوز حق أُمَّة بالكامل؟! وأنْ يقوم بالفتوى فيما لا يعلم؟ كهذا الكلام الخالي من الحقائق والأدلة، فحرية القول لها ضوابط، وأنت أيُّها السيد عندما تكون مُحكماً في رأيك، عند ذاك أفتِ كما تشاء!.
أحلام القومية العربية
مُذ وعينا على هذه الدنيا ونحن نعيش أحلام القومية العربية، أحلام الأمة العربية الواحدة التي يجمعها اللغة والدين والتاريخ المشترك والتقاليد والمصير الواحد، فالعروبة تمثل أكثر الاطروحات ثراءاً وعمقاً لأنَّها تعتمد على عامل ثقافي واسع ورحب، تُغذيه لغة واضحة بيِّنة وتدعمه معاناة تاريخية متشابهة، وهي أي العروبة انتماءٌ انسانيٌّ يحكمه العامل الثقافي كما بيَّنا، وأمَّا المكون الأساسي لها هو اتفاقها واجتماعها على المصلحة المشتركة. بعد ذلك نقول أنَّ الانتماء للعروبة لا يأتي من فراغ أو لمجرد التحدث باللسان العربي كما يدَّعي هؤلاء المغرضون، بل انَّ الانتماء للعروبة هو تعبير عن مجموعة من العلاقات المركبة الاجتماعية والثقافية والتاريخية والسياسية التي تشكل ذاكرة الانسان العربي، وتمثل مصالحه وآماله ومشاعره وحواسِّه، والانتماء هذا جزء من تطور اجتماعي وثقافي أنتجَ الأمة (العربية) منذ زمن بعيد، وهو يعتمد على الجوامع القومية المشتركة والموَّحِدات الكبرى التي تتجاوز المحليات.
هكذا هي العروبة، فهي تسمية قومية، جغرافية، لغوية وثقافية تشمل الخصائص الديموغرافية والاجتماعية والاقتصادية، ومما شك فيه أنَّ هذه الأمة قد تعايشت فيها ثقافات وعقائد وأعراق، كانت مثالاً للألفة والاندماج، وكان ذلك بمثابة غِنى ثقافي ومعرفي، فالكل يشعر أنَّه ضمن الأمة وفي كنفها، فالعروبة هوية قومية قبل أنْ تكون لغة، وأنَّ لها ثقافتها الخاصة بها والتي أساسها اللغة.
قد يخلط البعض بين الهوية والشخصية، والحقيقة أنَّ الهوية تُعبِّر عن ماهِيَّتنا كعرب، وبمعنى آخر مَن نحن العرب؟ أمَّا الشخصية فهي تعبير عن سماتنا نحن العرب. من هنا فهويتنا العربية تشمل المعطيات الجغرافية والإثنية والتاريخية، أمَّا الشخصية العربية فهي تعني السمات الحضارية والثقافية، وفيما أراه فلا يوجد هناك افتراق بين عناصر تكوين الهوية وملامح الشخصية.
واذا ما رجعنا الى تعريف العروبة كما نفهمها نحن، فهي العنوان والإسم والروح التي تجمع الشعب العربي وتُشعِره بشخصيته ورسالته في الحياة، وهي ليست عرقاً مُفَضَّلاً ولكنْ له مميزات تميزه عن غيره من الأعراق والأجناس.
انَّ الشخصية والهوية العربية مستَهدَفة اليوم أكثر مما مضى، وهما تتعرضان الى عملية تذويب خطيرة وبشكل علني منظم، تقف وراءه دول ومؤسسات وجهات معادية للعرب، ومن ذلك فقد أشاع أعداء الأمة بأنَّ القومية العربية وهَمٌ وتَضليل! ويبدو أنَّ المناخ العربي العاصف اليوم، مناسباً لهذه التلفيقات والادعاءات الجوفاء، في محاولة لإيجاد الأرضية المناسبة لتنفيذ المشروع المعادي للأمة، وهذه محاولة خبيثة للتشكيك في انتماء العرب الى أمتهم العربية العظيمة، وبالتالي تفتيت الهوية العربية ومحاولة شطب القومية العربية من سجل الشعوب والأمم! من هنا يحاول أعداء العروبة اختزال الأمة في اللغة فقط، بمعنى أنَّ ما يجمع العرب اليوم ليس أكثر من اللسان! أمَّا التاريخ والمصالح المشتركة والمصير الواحد، فتبقى مجردة من معناها.
هؤلاء وبعضهم من العرب للأسف، يفتعلون أزمة بين الهوية العربية واللغة العربية، وكأنَّ العروبة هي أساس الأزمة، وهم يعتبرون العروبة لِباس يمكن ارتداؤه وخلعه تبعاً للمزاج وحركة الرياح النفسية والعصبية!، وفي تصوري فهذه الادِّعاءات الباطلة ترمي الى استدعاء هوية أخرى من أعماق التاريخ لتصبح هي البوصلة للأمة، وما الضَّير في أنْ تكون هذه الهوية (المطلوبة) فارسية؟!
انَّ القول بالعروبة على أنَّها لسان وأنَّ كلمة عربية تعني الواضحة والمبينة، فهي تجَنِّي وظلم كبيرين للغة العربية، فهي لم تكن لغة (الصدفة) بل تمتلك خصائص تاريخية واجتماعية وثقافية تكوِّن العنصر العربي، وهي تجمع وتمزج بين الأصول التاريخية للقومية العربية، وتشكِّل منظومة القيَم والتراث الثقافي سواءاً كانت هذه (الجماعة) العربية تعيش على أرضها التاريخية، أو موزعة في أرض الشُتات. وهنا كما نرى يتداخل المفهوم العام للهوية القومية مع الهوية العرقية، فهذه الأخيرة تتميز بخصائص جسمانية ولغوية ثم دينية في الأصل القومي، وبالتالي فهذه الجماعة (العربية) تختلف عن الجماعات الأخرى في كثير من العادات والتقاليد والإرث التاريخي، الحضاري والانساني.
والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح، لماذا كل هذا التحامل على الهوية العربية؟ والحقيقة هناك أسباب متعددة سياسية وثقافية واقتصادية، حيث وضع أعداء الأمة قضية القومية العربية والهوية العربية على (أجندة)اهتماماتهم منذ زمن بعيد، ولا يسع المجال هنا لعرض تفاصيلها، وسأكتفي هنا بدحض الاتهامات المُلَّفقة التي تستهدف العروبة، ومحققاً لإثبات بطلان هذه الأحاديث والافتراءات التي تصدر من البعض هنا وهناك، فالعرب جنسٌ من الأجناس البشرية على سطح الأرض، والعربية هي نَسَباً وقومية وليست لساناً كما يدَّعي الدعاة والمغرضون والحاقدون على الأمة، وهي عرقٌ مثله مثل بقية الأعراق في العالم، والعربية أيضاً لغة ولسان، ولكن ليس كل مَن (تَعلَّم) العربية وتكلمها عربي العِرق والجنس.
بدايةً نستعرض في عجالة المعنى اللغوي لكلمة (أُمَّة) كما وردت عند ابن منظور في (لسان العرب)، حيث هناك أكثر من معنى للـ (أمة)، وتحديداً المعاني التي تهمنا في موضوعنا هذا، فقد جاء معنى (الأمة): الشِّرعة والدِّين والسُّنة والطريقة لقوله تعالى: (انَّا وجدنا آباءنا على أُمَّة) الزخرف آية 22، وقوله سبحانه: (كانَ النَّاسُ أُمَّة واحدة فبعَثَ اللهُ النَّبيين) البقرة آية 213، وقول الحقّ سبحانه: (كُنتم خيرُ أُمَّة أُخرِجَت للناس) آل عمران آية 110، والمعنى الآخر للـ (أُمَّة) هو القَرن من النَّاس، لقوله تعالى: (تلكَ أُمَّة قد خَلَت) البقرة آية 134، وتعني أمة كل نبي، أي قومه ومَن أُرسِل اليهم مِن كافر ومؤمن، والأمة تعني الجيل والجنس من كل حيّ، يقول الله جلَّ وعلا: (وما مِن دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه الَّا أمم أمثالكم) الأنعام آية 38، من هذا نستخلص أنَّ الأمة تعني القوم والجماعة والجنس، من هنا جاء قول الحقّ سبحانه: (وما أرسلنا مِن رسولٍ الَّا بلسانِ قومه) ابراهيم آية 4، يقول ابن كُثيِّر في تفسير قوله: (بِلِسانٍ عربيٍّ مُبين) الشعراء آية 195، أي أنَّ هذا القرآن أنزلناه باللسان العربي الفصيح الكامل والشامل، كيما يكون واضحاً قاطعاً مقيماً للحجة، وهو اعلام من الخالق سبحانه لمشركي قريش، أنَّه أنزله بهذه الصورة لئلا يقولون أنَّه نزل بغير لساننا (العربي)، بمعنى أنزله على العرب وليس لهم وحدهم، ونحن نعلم أنَّ العرب كانوا يفتخرون ويتفاخرون بالنَسَب، فالعربي بطبيعته يفتخر بعروبته لساناً ونَسَباً، ونحن نقول، أنَّه نزل بلغة العرب من باب التكليف لأمة العرب بمهمة نشره والدعوة اليه في العالمين، وبالتالي فقد كلَّف الأمة بمهمة التبليغ بالرسالة التي اصطفى لها رسولاً من العرب.
يقول الذين يفترون على العرب والعروبة، انَّ العربية مرتبطة بالإسلام ارتباطاً وثيقاً وليس بالجنس العربي! لأنَّه لا يوجد (جنس) عربي!، ونحن نَرُدُّ عليهم بأنَّ المعروف لا يُعَرَّف، وقد جاءت نصوص وأحاديث صحيحة ناطقة بفضل العرب ومُفصِحة عن مناقبهم. انَّ كلمة (عرب) تعني في الأصل سكان (الجزيرة العربية)، واكتسبت دلالة ثقافية بحيث أصبحت تدلّ على كل مَن يتحدث العربية وينتمي الى الثقافة العربية بغض النظر عن أصله ودينه، فقد كان قبل الاسلام يهود من العرب وعرب من النصارى. انَّ القول بالـ (عربي) كل مَن تكلم العربية، هو قراءة قاصرة وغير صحيحة للعرب والعروبة.
وأمَّا القول بأنَّ العروبة (تاريخياً) ليست ذات مدلول قومي لأمة أو عرق، قول باطل، فقد ورد في التاريخ أنَّ كلمة عرب هي كلمة سريانية (آرامية) ذات مدلول جغرافي على سكان غرب الفرات، وأنَّ الأبجدية المعروفة (أبجد هوَّز حطِّي كلمن سعفص قرشت ثخذ ضظغ) كانت تُستعمل في النطق العربي سابقاً عبر تاريخ العرب الطويل والممتد لآلاف السنين. ومما يشار له بالأهمية أنَّ يوم الجمعة كان يسمى قبل الإسلام بـ (يوم العروبة) وأول مَن سَمَّاه (الجمعة) هو كعب بن لؤي (الجَّد السابع للرسول صلى الله عليه وسلم، وهو سيِّد قبيلة كِنانة)، لذلك كانت قريش تجتمع في هذا اليوم، وكان العرب يتبضعون فيه قبل نهاية الأسبوع، والحقيقة أنَّ اسم العرب اقترن بالبادية والسهول المنبسطة، وقبل الإسلام كان هناك فرق بين كلمة عربي وهم سكان المدن (الحضر) وكلمة اعرابي وهم سكان بطون البادية (البدو)، وكان سكان الرِّيف يتأرجحون بين العرب والأعراب.
وبتقليب صفحات التاريخ القديم، نرى أنَّ البابليين أطلقوا لفظة (مانو أرابي) وتعني أرض العرب على البدو ساكني غرب الفرات، كما أطلق الآشوريون اسم العرب أيضاً على سكان غرب الفرات، وأقدم نص آشوري يذكر كلمة (عرب) يرجع للملك الآشوري شلمنصر الثالث (858-824) قبل الميلاد، كما وردت في النصوص الفارسية التي تعود لملك الفرس (الساسانيين) داريوس حيث جاءت لفظة (عرب) بمعنى البلاد الصحراوية المتآخمة لبلاد فارس الساسانيين، ومن هذا نخلص الى أنَّ البابليين والآشوريين والفرس استعملوا كلمة العرب على مناطق غرب الفرات والشام وشبه الجزيرة العربية. وفي هذا وردت اشارات كثيرة في التواريخ الآشورية الى زعماء العرب وتقديم هؤلاء الزعماء هدايا كثيرة لملوك نينوى منها الذهب والحجارة الكريمة والجمال والحمير. كما وردت لفظة (عرب) في العهد القديم في أكثر من مكان وقد أطلق اليهود على العرب اسم الإسماعيليين نسبة الى اسماعيل بن ابراهيم، أو الهاجريين نسبة الى هاجر أم اسماعيل.
وبخلاف ما يردده البعض من المُدَّعين، فبلاد العرب وطنٌ فسيح، مساحته حوالي مليون ميل مربع، يحدها الخليج العربي شرقاً والمحيط الهندي جنوباً والبحر الأحمر غرباً وبادية الشام شمالاً (هذا قبل الإسلام)، وقد قسَّم الجغرافيون القدماء بلاد العرب الى ثلاثة أقسام هي:
1. بلاد الحِجر العربية، وتتألف من جزيرة سيناء.
2. بلاد العرب الصحراوية، وهي البادية الكبرى وتمتد من حدود سورية والعراق الى المحيط الهندي
3. بلاد العرب السعيدة، وتشتمل على نجد والحجاز واليمن وعُمان.
وبعد…هذه هي جزيرة العرب مهد الساميين أو البقعة التي نزحوا منها الى ما حولهم من الأقاليم، ويذكر لنا التاريخ أنَّ جزيرة العرب وخاصة المناطق الوسطى منها لم تكن قاحلة جرداء كما نراها اليوم، بل كانت خصبة في العصور القديمة تصلح للعيش والحياة والسُكنى، ثم اعتراها الجفاف فطمس معالمها وأزال حضارتها.
كان المؤرخ الاغريقي (اليوناني) هيرودوت الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، عارفاً بالجزيرة العربية، فقد ذكر في حديثه عن (داريوس) الفارسي، أنَّ العرب لم يخضعوا بتاتاً للفرس. وذكر هيرودوت في تأريخه انَّ كل بلاد العرب تزفر أريجاً عطرياً، لأنَّها البلاد الوحيدة التي تنتج البخور والقرفة حيث كان أهل سَبأ أشهر العرب بسبب اللِبان والبخور، وكانت حضرموت في تلك الأيام هي أرض البخور بدون منازع، كذلك كان الذهب ثروة طبيعية ويوجد على طول الساحل الغربي لشبه جزيرة العرب، من مَديَن الى اليمن، وكان ذهب مناجم العرب ذهباً خالصاً جداً لا يحتاج الى صهر.
ويُذكَر أنَّ بطليموس (150-160) ميلادية، كان قد رسم في جغرافيته خريطة لبلاد العرب في كتابه هذا. وكان أهم ما يهتم له اليونان والرومان هو أنَّ عرب الجنوب كانوا يسكنون أرض البخور والتوابل وكانوا همزة الوصل بينهم وبين أسواق الهند والصومال، وذكر المؤرخ الروماني (بليني) الذي عاش في القرن الأول الميلادي، أنَّ الينابيع المعدنية في الجزيرة العربية تصنع المدن وتخلق الألهة، وهذه المقولة تنطبق على مدينة الحج العالمي (مكة) التي كانت مدينة للحج منذ فجر التاريخ، فقد زالت كل مدن الحج في العالم ولم تبقَ سوى مكة مدينة للحج العالمي، لأنَّها المكان الذي بُنيَ على التقوى. والملاحظة الأخرى أنَّ شعب هذه المنطقة من أصل (عرق) واحد، بذات اللغة والثقافة والدين والعادات والتكوين النفسي والحاجات المعيشية المتشابهة. وكانت ترافق هذه الأماكن الأسواق والمراكز الثقافية، فينشر الشعراء شعرهم بِلُغَتِهم المعروفة، ويقدم الخطباء خطبهم، ويعرض الفنانون مسرحياتهم.
ينقسم العرب الى قسمين كبيرين هما: العرب البائدة والمقصود بها القبائل التي هلكت وانقطعت أخبارها، وهي عاد وثمود وطسم وجديس وجرهم، وهي المسماة العرب العاربة، أمَّا القسم الثاني فهم العرب المستعربة وقد سُميَّت قحطان عرباً متعربة، وعدنان عرباً مستعربة. والعاربة هم العرب الراسخون في العربية، ويقيدهم المؤرخون أقدم سكان جزيرة العرب وقد ورد ذكرهم في القرآن مَثَلاً للكبرياء والجبروت اللذَين أديا بهم الى التهلكة، أمَّا عاد فكان موطنها حضرموت المتآخمة لحدود اليمن، وكان هؤلاء القوم من أشَّد الناس بطشاً، وفي المقابل فقد شيَّدوا أبنية شاهقة تدل على حضارتهم ومدنيَّتهم. وهنا يجب أنْ نفرِّق بين عرب الجنوب وبين عرب الشمال، فعرب الشمال في الأغلب بدو يعيشون في بيوت الشَعَر في الحجاز ونجد، أمَّا عرب الجنوب فَجُلَّهم من الحضر الذين يقيمون في اليمن وحضرموت، وعلى طول الساحل المجاور. وأهل الشمال يتكلمون لغة القرآن أو العربية الخالصة، أمَّا أهل الجنوب فكانوا يتكلمون لغة سامية قديمة كالسبئية أو الحميرية، وهناك مميزات قومية بين العرب، ينعكس ذلك في أنسابهم التي يقسمونها الى قسمين كما مرَّ معنا ذلك فيا سبق، ومما تجدر الاشارة اليه هنا أنَّ أهل المدينة المنورة (يثرب) الذين سارعوا لمناصرة الرسول صلى الله عليه وسلم ابَّان الهجرة هم من أصل يمني، في حين قبيلة قريش كانوا من أهل الشمال والغساسنة في الشام كانوا من عرب الجنوب، ولكنَّهم استوطنوا الشمال.
لقد كانت بلاد العرب والعرب أنفسهم معروفين لدى اليونان والرومان، اذْ كانت بلادهم تقع على الطريق المؤدي الى الهند والصين (طريق الحرير) و (طريق التوابل) وكان العرب ينتجون السلع التي تقدرها أسواق الغرب تقديراً عظيماً، والعرب كانوا وسطاء أو سماسرة البحار الجنوبية.
وتظهر مكانة العرب في حوارهم مع كسرى الفارسي في حضرة وفود بيزنطة والهند والصين، في حوار أظهر خلاله وفود العرب بأعظم ما يمكن من فصاحة وقوة النواصي التي فوَّقت أمتهم العربية. أكد المؤرخ اليوناني (ديدور الصقلي) الذي عاش في القرن الأول قبل الميلاد، أنَّ العرب يقدرون أعظم تقدير حريتهم، كما ذكر المؤرخ والجغرافي (استرابون) والذي عاش في أواخر القرن الأول قبل الميلاد في جغرافيته: انَّ العرب كانوا الشعب الوحيد الذي لم يرسل سفراءه الى الاسكندر الذي وضع خطة لجعل العرب مقر الامبراطورية.
ويلحق بما سبق وذكرناه عن الوجود العربي في الجزيرة العربية واليمن، ما جرى من حملة حربية رومانية على بلاد العرب، فقد فشل الرومان الذين كانوا سادة العالم في أنْ يُثَّبتوا (النِيْر) على أعناق العرب، ولاقت حملتهم الشهيرة هزيمة منكرة، والمؤلفة من عشرة آلاف رجل خرجوا من مصر في سنة (24ق.م) على عهد أوغسطس قيصر، وكان غرضهم الاستيلاء على طرق النقل التي كان يحتكرها عرب الجنوب، ولاستغلال موارد اليمن لمصلحة روما، وبعد شهور من توغلهم الى الجنوب، استدار الجيش المحطم الى (نجران) واتجه الى ساحل البحر الأحمر وعبر الشاطئ المصري، وكانت أبعد نقطة وصلوا اليها هي مأرب عاصمة السَبَئيين، وكانت حملة حربية ذات أهمية عظيمة خاطرت دولة أوروبية بارسالها الى بلاد العرب.
وأجد لزاماً هنا أن أشير الى قضية أجدها في غاية الأهمية وهي أنَّ العرب من الشعوب التي احتفظت بالميزات الطبيعية والخاصيّات العقلية لشعوب الشرق، وقد احتفظت اللغة العربية بأصالتها بما في ذلك التصريف، أكثر من اللغات الشرقية الأخرى، ومن الخواص التي انفرد بها العرب وامتازوا بها عن بقية شعوب الأرض هي (النقاوة الجنسية) أو العرقية، بسبب البيئة المنعزلة التي تعتبر من أشَّد البيئات قساوة كما هو حال أواسط بلاد العرب. وكانت جزيرة العرب مثلاً فذَّاً للعلاقات التي لا تنفصم والتي تربط ما بين السكان والتربة. واذا كان هناك موجات من المستعمرين الذين غمروا الهند واليونان وايطاليا وانكلترا، فإنَّ التاريخ لا يحدثنا عن شئ من هذا فيما يتعلق ببلاد العرب، ولم يذكر لنا التاريخ أنَّ غازياً نجح في اختراق حدود بلاد العرب (الجزيرة) وتأسيس مستقر دائم له في تلك البلاد.
انَّ القرابة اللغوية مظهر من مظاهر الوحدة العامة المحددة للجنس العربي، وهي تشكِّل ثقافته الخاصَّة، وللعرب ميزات أخرى منها غريزتهم الدينية حيث تمكنت منهم تمكناً عظيماً، ولهم خيال رائع وقوة الملاحظة، وقد كانت الجزيرة العربية تمثل خزّاَناً بشرياً هائلاً أمدت بلاد العرب الأخرى بالسكان في حقب طويلة، ومن هنا بدأت الهجرات الكبيرة الى بلاد الرافدين والشام (الهلال الخصيب(.
لقد أحاطت بالعرب تلك الهالة الوهَّاجة التي تحيط بشعب له جذور تاريخية ممتدة في العمق، فقد استطاع أفراد ذلك الشعب في مدى قرن من ظهور الاسلام أنْ يصبحوا سادة العالم، في دولة عظيمة تمتد من شواطئ المحيط الأطلسي الى تخوم الصين. وأصبحت اللغة العربية ولعدة قرون في العصور الوسطى، لغة العلم والثقافة والفكر الراقي في جميع أنحاء العالم المتحضِّر، وقد أُلِّفَت فيما بين القرنين التاسع والثاني عشر الميلادي باللغة العربية مؤلفات فلسفية وتاريخية وطبية وفلكية وجغرافية وفقهية أكثر مما أُلِّف في أيِّ لسان آخر.
وهكذا أشرقت شمس العرب في الماضي وسطع نورها على الدنيا كلها، ولكنَّها انطفأت هذه الأيام للأسف. انَّ من سمات الحضارة أنَّها كلٌ لا يتجزأ في المسكن والملبس والمأكل والمشرب والسلوك، وفي مناحي الحياة الانسانية كافة، فالحضارة نظام اجتماعي يعين الانسان على الزيادة من انتاجه الثقافي والفكري والمادي والمعنوي، وللحضارة أركان أربعة أساسية، هي النُظم السياسية والتقاليد الخُلُقيِّة والموارد الاقتصادية وتبادل العقائد والأفكار الثقافية والروحية والفكرية. وهي مشروطة بعوامل جيولوجية واقتصادية وجغرافية وثقافية، ولأنَّ الحضارة هي حصيلة مظاهر الرقي الفكري والفني والاجتماعي والبيئي والاقتصادي والسياسي، وبالتالي فقوام كل هذه المؤهلات هي الانسان والطبيعة، فهل كل ما كان للعرب من حضارة وبما تقدم من خصائص هذه الحضارة ومميزاتها وشروطها، يمكن أن نصف العروبة والعرب على أنَّهم ليسوا سوى ناطقين بالعربية، وأنَّ اللسان هو ما يجمعهم وليس غيره؟! وهل العطاء الذي كان عليه العرب في آفاق الآداب واللغة والحكمة والفلسفة والعقائد والحِرَف والصناعات، وكل ما ارتبط بتقدم الانسان العربي ورقيّه من توافر المعارف والعطاءات المبدعة التي أسهمت في تطوير الانسانية على مرِّ العصور قد خَلَت الَّا من اللغة؟! وأنَّ ما يجمع كل هؤلاء العرب ليس سوى اللغة! وهؤلاء هم مَن ازدهوا في ظل الحضارات العربية الساطعة على مساحة الأمة الواحدة عبر مراحل تاريخها الخالد، وفي ذلك يقول الشاعر العربي:
في الشَّامِ أهلي وبغداد الهَوى وأنا في الرِّقتين وبالفُسطاطِ اخواني
وآخر ما أنقله هنا، أنَّه ليس بين كل البلاد التي تُضاهي بلاد العرب في المساحة ولا بين كل الشعوب التي تناهز العرب في الأهميِّة والمكانة التاريخية بلدٌ او شعبٌ ظفر بقليل من العناية والدرس والبحث في العصور الحديثة كما حدث لبلاد العرب والشعوب العربية.
في الختام وبعد هذه الجولة التي انتقلنا من خلالها بين الرأي الذي يقول، أنَّ العربية لسان وحسب والعروبة لغة وليست عرقاً أو عنصراً، وبينَ رأينا الذي بيَّنا فيه أنَّ العربية هي عرق وجنس، وأنَّ العروبة هوية قومية قبل أنْ تكون لغة، نقول، هناك قاعدة فقهية تقول: عندما تجد أمامك أكثر مِن فتوى في قضية ما، اختار ما يطمئن اليه قلبك من تلك الفتاوى، واتبع ما ترتاح اليه نفسك من العلماء الأجلاء والقادة والمفكرين.
وهنا أترك للقارئ الكريم اختيار ما يطمئن اليه قلبه ويميل نحوه عقله، في موضوع العربية والعروبة، وفيما انْ كانت ليست سوى لغة ولسان فقط، أم هي قومية وعرق أصيل على هذه الأرض الواسعة، وهذا لا يمنع أنْ نقول رأينا بكل وضوح وهو أنَّ العروبة مَعين لا يَنضَب، وحضارة لن تَنْدَثر، وهي أيضاً قوَّة وعزيمة وكرامة وتاريخ…