بقلم: اسماعيل أبو البندورة
السؤال الذي يشغل عقل الناس في المرحلة الراهنة هو حقيقة وماهية هذه المفاجأة الانقلابية الثورية الشعبية الجوّاله التي انطلقت في انحاء مختلفة من الوطن العربي وأشعلت ثورات وانتفاضات وحراكا انفجاريا هائلا وحطمت الكثير من الاعتقادات الخاطئة عن العقم الجماهيري والاستعصاء الديموقراطي العربي وعن وحدة الامة وقوميتها الصاعدة والمتصاعدة التي تجري الآن تحت عنوان التغيير المتشابه والوجع الواحد والاداة العربية الواحدة ( من خلال النداء الموحد : الشعب " العربي" يريد اسقاط النظام )، وصححت بعض المسارات والقراءات السطحية الشاردة والنكوصية التي دأبت على التبشير بالخيبة والانطفاء، وفاجأت العقل المستقيل الكسول المستكين الذي وقف حائرا وعاجزا أمام الأبواب والآفاق المسدودة زمنا طويلا حتى أنه تحول الى عقل تأزم وأزمة انغلاق وتعطل واستسلام ·
وقد يكون من باب التكرار القول إن الواقع العربي في العقود الأربعة الأخيرة كان مأزوما ومهزوما ومعطلا بعد أن فتكت به وفككته كل السلطات التسلطية الغاشمة ، وكل الاختبارات والتجاريب السياسية والاقتصادية والثقافية الخارجية والداخلية · وكانت هناك محاولات دائبة ودائمة لابقاء هذا الواقع حبيس صراعاته وتلاطماته ورهين محاولاته العبثية "السيزيفية" في الصعود والهبوط العدمي الى أبد الآبدين !!
وأنشأ ذلك الواقع الملتبس – الذي اختلط فيه الحابل بالنابل وتكدست فيه كل مفارقات الدنيا – ظاهرات سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية هي أقرب الى الأعاجيب والبهلوانيات وتجليات السحر · وكانت الادبيات السياسية القومية المضادة لمعطيات الواقع القومي الانحطاطي والرافضة له ، والشارحة لمعطياته من منطلقات نهضوية ، والمفسرّة لاشكالياته اللامفكر بها ،والمستشرفة لآفاقه المستقبلية الايجابية والساعية الى تحريكه والداعية الى استنهاض هذا الواقع وتدارك عثراته و اشكالياته والعمل على اشتقاق دروب وآفاق جديدة فيه من خلال الخيارات المتاحة ، تبدو لبعض التحليلات والرؤى الاقليمية والمافوق قومية ، على أنها حراثة قومية رومانسية في البحر لا تقدم ولا تؤخر ، وهي ( أي الأطروحات القومية ) بنظراتها وايحاءاتها الايجابية المفتعلة والظفراوية تعزف على وتر تاريخي وقومي مرتخ أو مقطوع ورثّ لا ينتج الحانا واغنيات جميلة ، ولكن اصواتا نافرة ومزعجة تشبه الصرير ونقيق الضفادع !!
هكذا تبدّى المشهد ، وهذه كانت تجلياته الكارثية : انحباس واحباط وعدم قدرة على التجاوز ، وامعان في تحطيم وتخريب العقل العربي ، واعتداء سافر على كل محاولة للنهوض والاستنهاض والتغيير ، واستخفاف بالجماهير والناس الى درجة الامتهان والازدراء واستسلام مطلق للمعطى الخارجي الاستعماري العولمي واكراهاته ، ومحاولة بطيئة ولكن مثابرة لتقسيم وتفكيك الوطن العربي وتمزيقه وامتهان حريته ووجوده وتسليمه للأعداء من أصحاب المصالح والنفوذ والتبعية على طبق من ذهب ، وسلطات عربية تسهم في هذا التخريب دون رادع من مسؤولية وطنية أو قومية ·
وفي المقابل تجمعت لدى هذا الشعب المضطهد والمهدور والمقهور والمغلوب على أمره كل عوامل العصيان والتمرد على هذا الواقع وتوزعت انتفاضاته الموسمية المحدودة على اشكال كانت تبدو باهتة وهزيلة وناقصة أمام التحديات الكبرى والانتهاكات المتواصله لانسانيته وحريته ووجوده وكرامته ، وأنشأ ذلك احتقانات و تراكمات غاضبة هائلة في ضميره ووعيه مع وجود نقص في الأموال والثمرات جعلته في أحيان كثيرة يسترجع ويستعيد تلك المقولة القديمة التي ابتدعها "كارل ماركس" في أحد الأزمان : بأن من يثور لايخسر الا قيوده !!
وهكذا كانت اندفاعته الشعبية وبالحاح تاريخي طاغ بأن يكون التغيير جذريا راديكاليا و : الآن ·· الآن وليس غدا · لأن العرب اصبحوا فعلا بلا غد وبلا مستقبل في حال الاستمرار في هذا الاستنقاع · ومن هنا عرف الشعب طريقه التاريخي الى الخلاص واستطاع خلآل اسبوع واحد أن يهدم القلاع المحصنة و ينتصر على مليونيين من رجال وقوات الأمن في تونس ومصر( ان لم نضف اليهم ما لدى ليبيا) ووضع قضيته الوطنية والقومية دفعة واحدة على طاولة وخريطة العالم وأنشأ في خيال العالم صورة جديدة للعربي الثائر المدافع عن حريته ·
وانطلاقا من ذلك بدأ تاريخ جديد للعرب وللآمة العربية أو لنقل بدأت صناعة التاريخ الجديد للأمة بيد أبناء الأمة من دون ايحاءات أو ايماءات أو املاءات!!
واذا كانت انطلاقة الثورات ووهجها لاتشغلنا الآن بالقدر الذي تشغلنا فيه التداعيات والنتائج واستمرارية الزخم والروح الجهادية فيها ، والقدرة على المحافظة على انجازات هذه الثورات ، ·· الا اننا نسعى بأشكال مختلفة وبمحاولات معرفية مستمرة الى اشتقاق منطق وعناوين ثابتة لهذه الثورات حتى يستبين الثابت والمتغير فيها وحتى نتمكن من تأسيس الرؤى القادمة التي ستحدد سياقاتها وأنساقها المطلوبة لتكون ثورات بمواصفات حقيقية وعميقة ولا تكون ثورات تفضي الى الفراغ والمجهول ( لاسمح الله ) ، ذلك اننا لانريد ثورات بمضمون طائفي ومذهبي "وخصوصا اذا كانت موجهة من ملالي ايران وترفع صورهم وتنصت لفتاواهم " ، ولا نريد ثورات تفتح المجال للاختراق والاستعمار الأجنبي ، ولانريد ثورات تفضي الى تقسيم الوطن الواحد أو تعيد بعض الاقطار الى ماقبل وحدتها السابقة ، كما أننا لانريد ثورات تزعزع الوحدة الوطنية داخل القطر الواحد وتمزقها · ذلك أن منطق الثورة الجديدة الطالعة الآن في الوطن العربي لابد أن يتحدد بالمضامين والعناوين والمجلوبات التاريخية والسياسية التغيرية التقدمية التي ستفضي اليها والا فانها ستتحول الى ردة فعل أو أنها ستكون ثورات مضادة تعيد الأمة الى اسوأ حالاتها وهذا مانخشاه ولا نريده بعد هذا الانتظار التاريخي الطويل ، وحتى لاينطبق على هذه الثورات ما قاله الشاعر " علي بن عباس الايادي ":
قد ولد الصبح فمات الدجى صاحت فلم ندرِ غنا أم نواحا !!
أما المنطق الذي نراه ونتوخاه في هذه الثورات المباركة التي تحولت الى أعراس في ضمائر العرب ،هو أن تكون انتقالا تاريخيا وسياسيا نوعيا من مرحلة معتمة الى أخرى مضيئة ، وأن تكون تغييرا جذريا حقيقيا لصورة الوطن والأمة ، وأن ترفض و تحارب الطائفية والانقسامات المذهبية والأثنية ، وأن تصوغ شكلا جديدا لقوميتها العربية ذلك أننا نرى فيها البعد القومي يبدو بارزا في الشكل والمضمون والأداة والتطلع ، وأن تقف بصلابة أمام أي شكل من أشكال التدخل الاجنبي ، وأن تحقق للانسان العربي بعض طموحاته ومتطلبات كرامته الانسانية ، وأن تعانق العصر وتتفاعل مع الشعوب الاخرى الطامحة الى الحرية والتحرر ، وأن تقدم ديموقراطية نموذجية في الحكم وفي العلاقة مع الذات والآخر·
ان من شأن هذه التطلعات والرؤى أن تضع اشارات على الطريق ولا تريد بأي حال أن تقدم مواعظ ودروسا عن منطق الثورات ومساراتها ذلك أن الثورات في النهاية تحفر مجراها بذاتها وبقوانينها و بدماء الشهداء الذين يسقطون من أجلها · وايمانا وقناعة بذلك نضع هذه الهوامش على المتن الكبير للثورات العربية البازغة في اكثر من قطر عربي ، علنا نسهم بهذا التحول التاريخي الكبير حتى وان كان ذلك عن بعد ، وبمجاهدة الكلام والأفكار والعقل!! قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها !!