من المزايا التي يتحلى بها المثقف عن سواه، الاستجابة للمتغيرات والمعطيات الثقافية والحياتية، وتفاعله معها، والتي تنم عن حيوية هذا المثقف وقدرته على هضم ما هو جديد وما تفرزه المتغيرات، برؤية موضوعية، وتصحيح أو تعديل وتطوير في رؤاه وأفكاره وتصوراته، وتوسيع افقه المعرفي والثقافي، دون التخلي عن المرتكزات الرئيسة التي أسس عليها ثقافته، وبالتالي ينعكس ايجابيا على الثقافة بشكل عام ويساهم في تطويرها واغناءها، حيث أن التفاعل الثقافي مع الأخر أمر طبيعي ومطلوب في الوقت نفسه، يفرضه الواقع ومتطلباته وحاجاته الإنسانية.
لكن ما نراه ونعيشه اليوم من انقلابات وتحولات مفاجئة على امتداد الساحة العربية وتحديدا في العراق بعد الغزو الأمريكي، للبعض من المثقفين، لا ليحدثوا القطيعة مع ماضيهم وتاريخهم الخاص،بل التنكر لمسيرتهم الفكرية والثقافية، ليروا فيها عارا تخلصوا منه، وينساقوا باتجاهات خاضعة لأجندة المحتل وبما يخدم مخططاته ويستظلوا بشعاراته البراقة، والبعض الأخر من انساق إلى المواقف الطائفية والمذهبية والفئوية الضيقة، ويغيروا بوصلة مواقفهم واتجاهاتهم بالاتجاه المعاكس تماما، ليصبحوا أبواقا لهذا الطرف أو ذاك، ويحكم حركتهم إيقاع الدولار، والمنافع الشخصية، ليضعوا ذخيرتهم المعرفية ويسخروها في خدمة هذه الأجندة ومخططاتها.
وإذا كانت هذه الظاهرة التي اقتحمت المشهد الثقافي في العراق وساهمت في تشويهه إلى حد ما، قد أوجدها واقع الاحتلال وأبرزها على السطح، والتي تندرج ضمن مخططاته ومشاريعه في تمزيق النسيج الثقافي والوطني للعراق، بغية تدمير هويته وانتمائه العربي،فأن ذلك لا يلغي الأسباب الكامنة الأخرى والمتعلقة بأخلاقيات وسلوكيات هؤلاء المثقفين المتشكلة في بني اجتماعية محلية معينة، ولم تستطع كل ما تزودوا به من معارف وثقافة أن تجتث ما علق بدواخلهم ما تركته هذه البني من أمراض، فقد بقيت طي المكبوت، ليأتي الاحتلال البغيض ويهيئ لهم المناخات، لكي تندلق منها عفونة هذه المكبوتات. وبالرغم من الدعاوى بالعصرنة والتحضر وتزيين كلامهم بالألفاظ والشعارات والمصطلحات الجديدة، لكن رائحة الطائفية والمذهبية والقبيلة تفح من أفواههم، لينحدروا إلى المستوى المتدني لبعض الناس العوام الذين هم ضحايا الجهل والتخلف، واخذوا يسوقون التبريرات عن هذا التحول والانقلاب، بحجة أن ما كانوا يؤمنون ويعتقدون ليس إلا حالة عفي عليها الزمن وإنها من مخلفات التخلف والانحطاط وغيرها من التبريرات الواهية، ليمارسوا عملية التجهيل وأشاعته، بل تمادوا في إطلاق التسميات السوقية أو ما يشابهها في ما يقال في المجالس الذميمة فيسمى العروبي (عروبجي) والقومي (قومجي) وغيرها من الألفاظ التي تنم عن نزعة الإقصاء والإلغاء للآخر رغم الدعاوى التي يتشدقون بها عكس ذلك.
فمتى كانت العروبة نزعة تخلف أو أنها تعبير عن مرحلة الانحطاط، أليس هي العروبة تاريخنا وثقافتنا وهويتنا، أليس هي الانتماء الذي يجمعنا ويؤكد وحدتنا رغم التنوع الموجود في مجتمعنا والذي يعد حالة صحية وايجابية، ويتغلب على كل الانتماءات الطائفية والمذهبية والعشائرية وكل ما يمس وحدة نسيجنا الاجتماعي والثقافي، وإذا كانوا هم يرون في النموذج الغربي للديمقراطية هو المثل الأعلى، فلماذا لا يقلدوا الفرنسي حينما يعتز ويدافع عن هويته الفرنسية وقوميته، وكذالك الأمريكي حينما يتباهى (بأمته الأمريكية) والتي تتشكل من أقوام وأجناس وأعراق مختلفة، ولأنكي من ذلك ينبري البعض من هؤلاء بدعواهم المريضة ليمارسوا (العهر الثقافي) هو (إن هوية العراق لم تتشكل بعد)، هكذا يروا في العراق وكأنه (لقيطا) لا هوية له،أليس العراق جزء من الوطن العربي والثقافة في العراق بخصوصيتها هي جزء من الثقافة العربية الواحدة.
إن الذين يعدون ماضيهم عارا، ويتنكرون لكتاباتهم ومواقفهم وينتقلون إلى الضفة الأخرى، بطرفة عين، ويجدون في احتلال الوطن (تحريرا) ويساهمون في تعميق الجراح وتشويه الحقائق، لا يمكن لهم أن يحققوا امتدادا ثقافيا أو يتركوا أثرا مشرفا، سوى مكاسب ومنافع شخصية وما يفعلوه اليوم سيذهب أدراج الرياح لأنهم (مثقفون من ورق).