سألتني فضائيات ووسائل إعلام مختلفة، عن أسباب تكليف الإدارة الأمريكية جيمس بيكر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق والديمقراطي لي هاملتون، لقيادة فريق لإعداد الدراسة عن الأوضاع بالعراق في يوليو عام 2006، قلت حينها أن هذه الدراسة تريد التعرف عن كثب على حجم الهزيمة الأمريكية في العراق،
وأين وصل فشلهم في مشروع احتلال العراق، واستندت إجابتي إلى معطيات واضحة ودقيقة، في مقدمتها انهيار تام في معنويات الجنود الأمريكيين، وما يصلنا من معلومات من مترجمين يعملون مع الجيش الأمريكي، إضافة إلى ما بدأت تتحدث به وسائل إعلام أمريكية، يؤكد أن الخوف يسيطر على الجنود، وأنهم يلجأون إلى تعاطي الحبوب المهدئة والمخدرة كل ليلة حتى يستطيعوا النوم، أما في حال خروجهم بدوريات في المدن وشوارع الموت المنتشرة في العراق، فان الجنود يتناولون أنواعا مختلفة من الحبوب، لكي يبثوا بدواخلهم نوعا من الشجاعة المؤقتة، وخلاف ذلك فانهم يرتجفون خوفا من موتهم وتمزيق أجسادهم تحت وابل هجمات المقاومين في العراق، ولا شك أن انهيار الجيوش يبدأ بانهيار المعنويات، ويقول خبراء الحرب، أن جميع الانهيارات في الحروب يمكن معالجتها إلا الانهيار النفسي، فلا علاج له إلا بالانسحاب من الحرب ومغادرتها نهائيا.
النقاشات والحوارات بدأت بعد الإعلان عن عودة الفريق إلى الولايات المتحدة، واعتكاف الأعضاء الأربعين على صياغة التقرير النهائي، وما قلناه لم يكن أكثر من قراءة لأوضاع القوات الأمريكية في العراق، تمتزج فيها المشاهدة اليومية للهجمات وما يتسرب من معلومات من داخل القواعد الأمريكية، ويتداولها العراقيون بكثير من الفخر بمقاوميهم، لانهم يهزمون أكبر قوة في العالم، يضاف إلى ذلك استقراء الخطاب الأمريكي الذي أخذ يتراجع بقوة من خطاب التعالي والتفاخر (خطاب بوش في الأول من مايو 2003)، الى تصريحات القادة الأمريكيين التي بدأت تعترف بصعوبة الأوضاع (اعتراف مارك كيمت في أبريل 2004 الذي قال فيه إن المسلحين قطعوا جميع طرق الإمداد للقوات الأمريكية).
ولم يظهر التقرير بالسرعة التي توقعها الكثيرون، واستمرت دراسته ومناقشته في دوائر القرار المغلقة في البيت الأبيض والبنتاجون ووكالة المخابرات المركزية ستة أشهر تقريبا، وتم الاعلان عنه مطلع ديسمبر عام 2006، ومن بين الفقرات المهمة التي جاءت فيه ما نصه "لا شيء يستطيع الجيش الأمريكي فعله، فيضمن النجاح في العراق" (ص 70).
أثناء الكشف عن التقرير جرى استجواب المرشح لمنصب وزير الدفاع روبرت جيتس خلفا لوزير الدفاع دونالد رامسفيلد، الذي قال بالنص أمام الكونجرس الأمريكي، علينا أن نعترف ب (أن لا نصر في العراق -6-12-2006)، وكان جيتس أحد أعضاء فريق بيكر هاملتون، وسبق له زيارة العراق مرتين للاطلاع على أوضاع القوات الأمريكية في هذا البلد، فخرج بهذه النتيجة الحاسمة، وهو أول إعلان رسمي للهزيمة الأمريكية في حربها على العراق، وقال الخبراء والمراقبون بعد نشر التقرير إنه قد تمت صياغته بلغة أكثر تواضعا من تلك التي اعتاد المسؤولون الأمريكيون اعتمادها في خطاباتهم وتصريحاتهم، اذ حصل انقلاب كبير في لغة الخطاب الخاص بالأهداف الأمريكية في العراق، وتخلى التقرير من جعل العراق منارة للديمقراطية في الشرق الأوسط، واستبدلها بعبارة المحافظة على الدولة العراقية من التفكك، كما ظهرت عبارات تتحدث بصراحة عن فشل الاحتلال الأمريكي العسكري في العراق.
ومن بين التوصيات الـ (79) التي تضمنها التقرير، فان ما تحقق منها الذي يرتبط بالفشل الأمريكي، وهذا اتضح بجلاء باضطرار القوات الأمريكية إلى الانسحاب تحت وقع ضربات المقاومين في العراق، أما التوصيات الاخرى المتعلقة ببناء دولة عراقية متماسكة، وإجراء مصالحة شاملة، وإعداد الأجهزة الامنية وغيرها من ما ورد في التقرير، فان شيئا منها لم يتحقق على الاطلاق، وهذا ما يلمسه الجميع في هذا البلد، بعد اكثر من ثماني سنوات على الاحتلال وخمس سنوات على تقرير وتوصيات بيكر ـ هاملتون.
إن العودة إلى تقرير بيكر ـ هاملتون في هذا الوقت ضروري، لانه كان أول مؤشر على ما آلت اليه احوال القوات الأمريكية في العراق، وقد يحاول البعض القول ان الانسحاب الأمريكي جاء تنفيذا لوعود باراك اوباما الرئيس الأمريكي، الذي تم انتخابه بعد سنتين من صدور تقرير بيكر ـ هاملتون، أو هناك من يقول بان الانسحاب الأمريكي قد حصل بعد ترتيب الاوضاع في العراق، وفي الواقع لا هذا ولا ذاك، وان الأمريكيين اعترفوا بفشلهم امام زخم ضربات المقاومة العراقية منذ عام 2005، وتعززت تلك القناعة بـ (الفشل) الى مخاوف حقيقية من هزيمة كبيرة، فتم إرسال بيكر وهاملتون، وخرج الفريق بقناعة راسخة، تؤكد الهزيمة وتبحث عن المخرج المناسب، للتخفيف قدر الإمكان من وقع الهزيمة، فتقرر الانسحاب من العراق منذ عام 2006، ولم يسمع حينذاك الكثيرون بباراك أوباما.