يعقوب سيادي
دمستان وكرزكان قريتان متجاورتان، من جنوب غرب البحرين، وحين الحديث عن القرى، يكون الحديث عن التاريخ والتراث والأصالة، في جميع مظاهرها البشرية والحياتية. فالقرية في البلاد الحديثة، هي بمثابة المتحف الطبيعي والإنساني الحي، في زواياه الاجتماعية والاقتصادية؛ وفي العادات والتقاليد والمهن؛ وفي الطبيعة الخلابة وفي التاريخ، فتستحوذ القرى على اهتمام الحكومات الوطنية، عملاً بالقول، «من أضاع قديمه فقد أضاع مستقبله»، فتحافظ الدول على السمة الحقيقية للوطن، من خلال تطوير القرى، من غير أن تمسّ طابعها الحياتي، الذي طبع وجدان أهلها بِسِمَةٍ، هي عيون وملامح الوطن، فتبقى القرية بناسها وعمارة بيوتها، ومعالمها المختصة بمسببات الحياة، من آبار وقنوات وترع ومزارع، وشواطئ وبحار وحظور مصائد الأسماك، ومنشآت وأدوات العمل اليدوي، وكل ما له صله بـِسِمات القرية، في طبيعتها الحياتية والدينية، قائمة تحتويها حياة القرية ما دامت الدنيا، بل وهي -أي القرية- أولى بالأسبقية في الرعاية.
إلا أن الواقع الذي يُبرر السؤال، عن حال القرى وأهلها، أنها مأهولةٌ بطائفة، هي الأصل في بشرية الوطن، والقرى أبعد ما تكون عن اهتمام السلطات، بل ويلاحظ إهمالها المتعمد، والتضييق على أهلها، قياساً بالاهتمام الرسمي بالمدن، بما يرسم علامة استفهام كبيرة، وممتدة مساحتها إلى مساحة تاريخ الوطن، في عروبة السلطات ومذهبها.
والسؤال رفعته القريتان، ما بين عشية وصبيحتها، ففي دمستان يسقط رجل أمن، في مقتبل العمر، ليغيب عن هذه الدنيا، التي أغرته أن يترك بلاده، ويجيء إلى بلاد، تحتضن قرية اسمها دمستان، ولم يكن يعلم أن بدمستان، مكتوب له الثرى مثوى، كان ذلك بالعشية، لتأتي صبيحتها، بصيحة موت أخرى من كرزكان، فيسقط مواطن مدني، تجاوز أكثر من نصف عمره، ولم يتجاوز القانون والسؤدد، ولم يحمل سلاحاً ما حيا، بل حمل عصاً يتكئ عليها، استعانةً على وهنٍ، رسمه المشيب في شعيرات ذقنه، وفي خطوط أخاديد العمر في ملامح وجهه.
غيّب الموتُ الإثنينِ، ولم يكن موتهما على الفراش، ولا عل إثر وعكةٍ صحية، ولا جرّاء عملية جراحية، غير مأمونة النتيجة، ولم يكن حتى بسكتة قلبية مفاجئة، بل جراء فعلين منفصلين، أراد صاحباهما لكليهما القتل، لتخرج علينا الجهة الرسمية المعنية، ممثلة برئيسها، وتعلن الشهادة للأول والوفاة للثاني، على رغم ما جاء على لسان المتحدّث، من توصيف سبب الموت الواحد الذي أصابهما، بأنه جَراء عمل إرهابي، على حد قوله، علماً أن الشهادة لا يمنحها العبد دون الله، مهما علا شأنه في الدين أو الدنيا! أم أن سياسات التمييز السياسي والطائفي، التي تطال القرى وأهلها، ممتدة حتى إلى عالم الأموات.
ورب سائل يسأل، من الجاني ومن المجني عليه، وينسى أو يتناسى، أن الموت في كل الحالات، يقترن بالألم والحسرة على الفقد، إلا أنه في حال الموت قتلاً، ومهما كانت دوافعه، وأياً كان مقترفه، وأياً كان ضحيته، فإن الحدث يُحمّل الدولة مسئولية البحث والتقصي، لإجراء مجرى العدالة، والمساواة في الحقوق، وأمام القانون، تلك الإجراءات التي غابت للأسف، في النية قبل الفعل، لحظة التفريق التي أعلنها رئيس الجهة المعنية، في التوصيف ما بين الشهيد والمتوفي، مع أن التوصيف العادل أن الإثنين قد قُتلا، فهما قتيلان، هذا هو الوصف المبدئي من قَبل التيقن، الذي يحتاج الوقت للبحث والتقصي، والإحالة الى النيابة العامة ومنها الى القضاء ليصدر حكمه في حال القتيلين، فمن مات قتلاً من غير حق، فهو الشهيد، وحقّ لأهله القصاص أو الفدية، أو العفو.
الآية الكريمة: «ولكم في القصاص حياة»، هي الإجابة على السؤال: من الجاني؟ فالقصاص هو التيقن في مبدئه، من تبيان الدافع، ثم الغرض من الفعل، وما له من مبتغى ممتد أو حدود، وملائمة الوسيلة والأداة لذلك، وإجادة استخدامها عند الجاني لذات الغرض، والظرف الزماني والمكاني للفعل، ومن الإصرار والترصد والإرادة، بهذا يتسنى للمعني بالمسئولية، التحقّق من التوصيف، إن كان جرماً، أو فعلاً ينبني عليه محاكمة طرف آخر رسمي، ربما لأنه لم يُجرِ قصاصاً سابقاً كما يجب، بما ألزم عاطفياً ووجدانياً، مظلوماً أو متأثراً بمظلومية، أن يجري قصاصاً مباشراً، رداً على تخاذل جهة رسمية، يسَّرت إفلات جانٍ من العقاب، بدافع المنفعة أو الطائفية، سياسية كانت أو مذهبية.
فلا أسوأ من حال الوطن، الذي حاله كما أثاره ذاك الإنسان البسيط، حينما سأل ببراءة، إذا القاضي يعاقب الكل، فمن يعاقب القاضي إذا ظلم؟ بمعنى أن الأوطان لا يمكن لها أن تستقر بأمنٍ وأمان، ما لم يتساوَ جميع مواطنيها، أما القانون في الحقوق والواجبات، وذات القول أو الفعل، يجري على أصحابها ذات الجزاء أو العقوبة، دون أدنى تفرقة، ومهما علا شأن هذا أو ذاك، وإلا فإن أَمِنَ أحدٌ صباح يومه، فلن يأمن ضُحاه، وإن أمن عصره، فلن يأمن ليله.