عبدالنبي العكري
«من مراكش للبحرين شعب واحد لا شعبين»، هكذا كان هتاف الجماهير البحرينية التي انطلقت في البحرين في ظل هيئة الاتحاد الوطني العام 1955 بعد أن أطلقت سلطات الاستعمار الفرنسي سراح الملك المغربي محمد الخامس وأعادته من منفاه في مدغشقر، لتبدأ بذلك عملية استقلال المغرب ويعود الملك المغربي ملكاً شرعياً على بلاده بعد تحرير الريف المغربي على يد المقاومة الشعبية، ورفض الملك للاستعمار الفرنسي الذي أدى إلى نفيه لسنوات فيما عرف بثورة الشعب والعرش.
مسيرة المملكة المغربية من الحكم الأبوي للمك محمد الخامس، مروراً بالحكم الاستبدادي للحسن الثاني، ثم أخيراً الحكم الدستوري الديمقراطي للملك محمد السادس، مسيرة متعرجة، شهدت فترات قاسية سماها المغاربة «سنوات الجمر»، في عهد الحسن الثاني. شهدت تمردات في جبال أطلس وانتفاضات أشهرها انتفاضة 8 مارس 1965 متزامنة مع انتفاضة 5 مارس 1965 في البحرين، وترتب عليها فصول مأساوية من القمع بحق المعارضة ومناطقها، واغتيالات أشهرها اغتيال القائد الوطني المهدي بن بركة، وسجون رهيبة أشهرها سجن تزمامارت، وضحايا بالآلاف من الشهداء والسجناء والمنفيين.
لكن الملك الحسن الثاني أدرك بحنكته وهو في آخر أيام حياته وقد أصيب بالسرطان، أنه لا يريد ترك البلاد لابنه في تلك الحالة المتأزمة، فبدأ بتدشين إصلاحات سياسية، وخلق مناخاً للمصالحة الوطنية، فأطلق آلاف المعتقلين السياسيين ومنهم الحقوقي اليساري إدريس بن زكري، الذي أضحى رئيس «الهيئة الوطنية للإنصاف والمصالحة»، التي تولت عملية تعويض ضحايا النظام وسمح بعودة جميع المنفيين ومنهم عبد الرحمن اليوسفي، المحكوم بالاعدام 3 مرات، والذي أصبح أول رئيس وزراء من الحزب الاشتراكي المعارض التقليدي للحكم، بعد أول انتخابات نزيهة أتت بالأغلبية للحزب الاشتراكي في 1999. وقد تواصلت الاصلاحات لكنها لم ترق إلى تطلعات الشعب المغربي في ملكية دستورية ديمقراطية حقيقية، حيث ظلت صلاحيات الملك واسعة فيما يعرف بنظام المخزن؛ وحيث مستشاري الملك أقوى أحياناً من الوزراء، وحيث الملك يرأس مجلس الوزراء ويختار وزراء السيادة وهو المسئول عن الدفاع، وبالطبع يحمل لقب أمير المؤمنين، وهو بالتالي رئيس مجلس الإفتاء.
لكن الملك طوّر نهج الاصلاحات تدريجياً وكرّس تقليد اختيار رئيس الوزراء من بين حزب أو تحالف أحزاب الأكثرية وعدّل القانون الانتخابي، بحيث خصص 33 مقعداً للنساء على مستوى البلاد، وجرى مؤخراً تعديل القانون بحيث خصص 25 مقعداً للشباب يتم انتخابهم.
ثم جاءت انتفاضة 17 فبراير 2011، ضمن سلسلة انتفاضات وثورات الربيع العربي المنطلقة من تونس، لتطلق حراكاً شعبياً ونخبوياً واسعاً يتعدّى الأحزاب والنقابات. وبغض النظر عن الاختلافات في تقييم نظام الحكم المغربي، ومدى كونه ملكية دستورية، إلا أن الملك وبتوافق مع الأحزاب توصلوا إلى مسودة دستور جديد، باتجاه الملكية الدستورية، بمعنى نقل كثير من صلاحيات الملك إلى رئيس الوزراء، ونقل جميع صلاحيات التشريع لمجلسي النواب والاستشاري (وكلاهما منتخب)، وتعزيز اللامركزية، وتشكيل «المجلس الوطني لحقوق الانسان»، و»المجلس الوطني للنزاهة ومكافحة الفساد» و»المجلس الوطني للإعلام» وتعزيز استقلالية القضاء. ومن أهم التطورات وصول حزب إسلامي إصلاحي برئاسة بن كيران، زعيم «حزب العدالة والتنمية» إلى سدة الحكم بتحالف مع ثلاثه أحزاب وضعية.
كل ذلك لم يمنع استمرار انتفاضة 17 فبراير 2011، والتي تقوم بفعاليات جماهيرية ونخبوية مستمرة. وعلى رغم مواجهتها من قوات الأمن إلا أنها لم ترقَ إلى القمع الشديد، ولم يسقط حتى الآن سوى ضحايا على عدد أصابع اليد.
أوضاع المغرب ليست مثالية، ولم ترق إلى مرتبة الملكية الدستورية كما يطمح غالبية المغاربة، لكن مساواتها مع مملكة البحرين كما يصر وزير الدولة لحقوق الإنسان صلاح علي أثناء زيارته للمغرب، مقاربة مجحفة وبعيدة على الواقع. فالوزير الذي رأس وفد البحرين للمراجعة الدورية الشاملة لحقوق الإنسان في جنيف (يونيو 2012)، وكانت البحرين ضمن المجموعة التي ضمت المغرب ورأس وفدها كاتب الدولة لحقوق الإنسان بوزارة الخارجية المغربية، وقد شهد صلاح علي الفارق الكبير في تعاطي المغرب مع آلية المراجعة الدورية لحقوق الإنسان وتعاطيه، ما يعكس تبايناً شاسعاً بين النظامين.
المغرب لا تشهد أزمة لحقوق الإنسان، بل مشاكل لحقوق الإنسان، وقد صدر عن مجلس حقوق الإنسان 48 توصية للمغرب، قبِلَها كلها مع بعض التحفظ على بعضها مثل حقوق المثليين، ومساواة المرأة في الميراث. بينما وجّه المجلس للبحرين 176 توصية، لم تقبل أياً منها حينها، وأجّلت إلى اجتماع سبتمبر 2012، حتى يتفق أصحاب الحكم على ما يقبلون وما يرفضون، في سابقةٍ تاريخيةٍ للأمم المتحدة.
وفد البحرين الرسمي 39 شخصاً، ووفد المغرب 12 شخصاً فقط، بعضهم رسميون وبعضهم من المجالس المتخصصة مثل حقوق الإنسان، والنزاهة، والاعلام. وفد المنظمات الحقوقية والأهلية الذي يتمتع بالاستقلالية منذ عقود، كان يعقد الاجتماعات الموازية ويتصل بالوفود، ويعبّر عن رأيه في الصحافة المغربية المواكبة للاجتماع ووسائط الإعلام الأجنبية في جنيف بكل حرية، ودون تدخل من الوفد الرسمي، بل أن رئيس الوفد المغربي عبّر عن اعتزازه بدور المجتمع المدني في حماية وتطوير حقوق الإنسان بالمغرب.
وفي المقابل، اصطحب الوزير البحريني معه وفداً كبيراً من جمعيات محسوبة على الحكومة على نفقة الدولة، وكان همهم مواجهة الوفد الأهلي الحقوقي المستقل، وقد أفتقد الوفد الرسمي أدنى درجات اللياقة بعدم السلام حتى على الوفد الأهلي البحريني. أما داخل البحرين فقد شنّ الإعلام الرسمي حملة تشهير ضارية وتهديدات صريحة دون رادع، ما جعل الوفد الأهلي يتوجه لرئيسة مجلس حقوق الانسان السيدة دوبوي بالشكوى، وعندما خاطبت الوزير طالبة ضمانات بسلامة أعضاء الوفد الأهلي حين عودتهم للبحرين، وبدلاً من التطمين، أنكر الوزير هذه التهديدات جملةً وتفصيلاً، وهو يعرفها جيداً. وقد تابع أفراد جوقة مندوبي الدول القمعية نصرة الوزير ومهاجمة السيدة دوبوي التي وقفت موقفاً شجاعاً، متمسكةً بمسئوليتها الأدبية فيما أحاط بها الوفد الرسمي وتوابعه، ما استدعى حمايتها من قبل شرطة الأمم المتحدة في القاعة، في سابقةٍ لم تشهدها جنيف من قبل.
وتكرر الأمر في دورة المراجعة الدورية بمجلس حقوق الانسان بجنيف في سبتمبر 2012، وهذه المرة برئاسة وزير الخارجية الشيخ خالد بن أحمد الخليفة، لئلا تتكرر إخفاقات وزير حقوق الانسان، الذي أضحى الرجل الثاني في الوفد. وبعد ضغوط وطنية ودولية، وبعد مداولات لمدة أربعة أشهر، قبل الوفد الرسمي 147 توصية و11 توصية جزئياً، بمجموع 158 توصية، ورفض 18 توصية جوهرية بما فيها تلك المتعلقة بالتحقيق الجدي مع المسئولين عن الانتهاكات مهما كانت درجتهم ومحاسبتهم ومقاضاتهم، وإطلاق سراح معتقلي الرأي وإصلاح القضاء، وإعادة هيكلة قوات وملاك وزارة الداخلية لتستوعب مختلف مكونات شعب البحرين وتجريم التمييز وغيره.
وإذا كان المغرب ماضياً بجدية في تنفيذ توصيات مجلس حقوق الإنسان، مستعيناً بخبرات ودعم مكتب المفوّض السامي وأصدقائه من الدول الديمقراطية والمنظمات والمؤسسات الأهلية المحلية والدولية، فإن البحرين تراوغ في تنفيذ الـ 158 توصية التي قبلتها، ولم تنفذ جوهرياً أياً منها، كما لم تنفذ جوهرياً من قبل أيا من توصيات لجنة بسيوني.
المفارقة أن تلفزيون العائلة، قد قاطع نشاطات الوفد الأهلي البحريني المستقل، بينما أجرت معنا التلفزة المغربية الرسمية لقاءات بُثّت لاحقاً، وخصّت الوفد الرسمي وجمعيات الغونغو» بتغطية ضافية.
في المغرب مواطنون، وفي البحرين رعايا. في المغرب سلطة مقيّدة، وفي البحرين سلطة مطلقة. في المغرب الأجهزة الخاصة من أبناء البلد وفي البحرين من مختلف الجنسيات.
يمكننا ذكر الكثير من المفارقات ما بين المغرب والبحرين، ويمكن لوزير الدولة لحقوق الإنسان، أن يصرّح بما يريد، خصوصاً أمام الرسميين المغاربة، فآداب الضيافة واللياقة تحتم عليهم الاستماع لما يقول، لكنه لن يستطيع إقناع الشعب المغربي وبالتأكيد الشعب البحريني بما يقول، فكلامه بعيد عن الواقع وغير قابل للتصديق.