في مقابلة تلفزيونية قال روبرت فيسك: “بعد الثورات العربية اعتقدت أن العرب سيطلبون الوحدة وما فاجأني أن شيئاً من هذا لم يحدث، حتى لو على صعيد الشعارات المرفوعة”، وأضاف الصحفي البريطاني: “نحن من صَنَع الحدود: من صَنَع “سايكس – بيكو” ومن قَسَم الخليج العربي، ويبدو أن العرب قد استكانوا لذلك رغم أن بإمكانهم تحقيق وحدة تمتد من المحيط الأطلسي إلى الحدود العراقية الإيرانية” .
تساؤلات فيسك هذه قد تبدو مبكرة، وإن تكن مقلقة . فالجماهير العربية التي تحركت، هنا وهناك، وضعت على أول سلم أولياتها المطالب الداخلية، وربما المعيشية: حقوق الإنسان،توزيع الثروة، مكافحة الفساد والعبور إلى الحياة السياسية الديمقراطية .
وإذا كان هذا الانغماس في الهمّ الداخلي يبدو طبيعياً بالنسبة لمواطنين عانوا طويلاً من القمع والحرمان والمصادرة والإفقار، إن لم يكن من التخلف في عدد من الشرائح والمناطق، فإن البعد القومي والإقليمي والدولي ليس خارجاً عن هذا الحراك الذي من شأنه أن يحدد مستقبل المنطقة والعالم . وبصرف النظر عن الجدل القائم عمّا إذا كانت الانتفاضات العربية المحلية عفوية أم مبرمجة، وعن واقع الاختراقات الكثيرة التي تتعرض لها، فإنها وباستثناء الوضع الليبي، تعيش مخاضاً سياسياً حاداً، هو ما سيرسم ملامح المرحلة المقبلة . في كل من الدول المعنية ومن ثم في الوطن العربي كله . سواء على مستوى الأحزاب التي تتشكل في تونس وفي مصر وفي سوريا، أو على مستوى الانتخابات المقبلة وأولها التونسية . ولا شك أن ذلك ما سيحصل في جميع الدول العربية وإن بعد حين .
القوى التي تتبلور على كل الساحات سوف تؤول في النهاية المحتومة إلى ثلاثة تيارات رئيسة: القومي والإسلامي، والليبرالي إضافة إلى تيار يساري قد يكون الأضعف . وإذا كان الأول ينقسم إلى اتجاهات معروفة تقليدياً، فإن كلا من التيارات الثلاثة الأخرى ستنقسم بدورها إلى عناوين مختلفة، خاصة من حيث موضوعان: الانعزالية القطرية أو التوجه القومي من جهة، والاستقلالية الوطنية أو الارتباط بالخارج، من جهة أخرى .
ومن الواضح أن مسألة السيادة التي تحسم الخيارين هي المعيار الأول الذي يؤمن المصالح الوطنية ويمنع تدميرها لتحقيق مصلحة خارجية كما حصل في العراق، أو القضاء عليها وجودياً، كما حصل في فلسطين . فشكل الحكم، أو تركيبته أو أشخاصه تظل مسألة ثانوية، قابلة للتغير والتداول، أما جوهر المصالح العليا للشعب والدولة فهي الثابت الذي لا يمكن المساس به . وإذا كان هناك من صراع مشروع داخل الدولة، أية دولة، فهو صراع على الوسيلة الأفضل لتحقيق مصلحة المواطن (داخلياً) والدولة (خارجياً) وهما أمران غير قابلين للتناقض . أما الصراع على منطق قومي لا يحقق حقوق الفرد ومصالحه، أو منطق آخر يفصل مطالب الأفراد أو الجماعات عن سيادة دولتهم واستقلالها ومصلحتها، فهو صراع مرضي مدمر لكلا الطرفين، صراع يتناقض فيه كل من المنطقين من داخله ويدمر نفسه وطرفيه معاً .
وإذا كنا ممن يؤمنون بأن الخط القومي هو وحده القادر على تحقيق مصلحة الوطن العربي، المحتل في نصف أجزائه والمصادر في أكثرها، لأنه الوحيد المعني بمصلحة الوطن دون سواها، بعيداً عن ثلاث عولمات عشناها ونعيشها: الشيوعية، الأمريكية الليبرالية، الإسلامية، فإن ذلك يشترط حتماً شرطين أساسيين: الأول هو القبول بكل الرؤى التي تختلف في الوسائل وتلتزم بالعنوان، من يسار قومي إلى يمين قومي، ومن تديّن قومي إلى علمانية قومية ومن مختلف الطروحات الأخرى . أما الشرط الثاني فهو مراجعة داخلية عميقة في صميم التيار القومي، تقر بأن الحريات على اختلافها وحقوق الإنسان وقبول التعددية ودولة القانون هي ما يشكل ضمانة نجاح الفكر القومي والدولة القطرية والقومية ومصالح البلاد والناس، إذا ما آمنا بأن النجاح هو أولاً في صميم الشعب ومن ثم في أن تواجه به ومعه الخارج، حليفاً كان أم خصماً أم عدواً .
الخليج:الثلاثاء ,11/10/2011