بتنظيم من الفريق العربي للحوار الإسلامي المسيحي ومركز الدراسات الحضارية وحوار الثقافات بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية – جامعة القاهرة عقد هذا المؤتمر بمشاركة نخبة من الباحثين والمفكرين والنشطاء في مجاله، وقد دعي مركز الخليج للدراسات الاستراتيجية للمشاركة في أعمال هذا المؤتمر، وعلى مدى سبع جلسات من 17 – 19 سبتمبر 2010 تناول المؤتمر نماذج الحضور المسيحي في الحضارة الإسلامية، ودور المرجعيات الإسلامية في موضوع الحضور المسيحي في الشرق، ونماذج فكرية حوارية من مسيحيي الوطن العربي وأدوارهما في الحالة الثقافية والحوار الإسلامي المسيحي، وخريطة الأدبيات السابقة وما طرحته من إشكاليات وتراكم، وطبيعة السياق الإقليمي والدولي الذي يبرز إشكاليات العلاقات الإسلامية المسيحية في الوطن العربي، ثم تناولت مناقشات المؤتمر حالات مصر، والسودان، ولبنان، وفلسطين، والعراق، وسوريا، قبل أن يختتم أعماله ببيان ختامي.
وقد جاء انعقاد هذا المؤتمر وسط أصوات عديدة وأجندات ومؤسسات دولية تسعى لتدويل الموضوع على خلفية العولمة، وقبل أسابيع من انعقاد سينودس أساقفة الشرق الأوسط في روما، وفي وقت يشهد ميلاً إلى إضعاف الوثاق القديم المتين الذي يربط المسيحيين بالمسلمين في هذه المنطقة، وتراجع جو التسامح والمعايير والمفاهيم والقيم في اتجاه نحو مزيد من التضييق والتشدد والتطرف، وهو ما أملى على المؤتمر الاتجاه إلى بلورة صيغ واقتراح آراء تساعد على الحوار الهادئ وتوحيد وتقوية الداخل ومواجهة المشترك من تحديات الواقع والمستقبل وطمأنة المسيحيين على وجودهم الحر وعلى دورهم الفاعل ومستقبلهم المشترك مع إخوانهم المسلمين، وتجنب تحميل مسيحيي المنطقة وزر دعوات الكراهية كالدعوة إلى حرق المصحف الشريف بمناسبة ذكرى 11 سبتمبر.وقد أكد المؤتمر في جلساته الأولى أن الوثائق الإسلامية الأساسية من قرآن كريم وسنة نبوية والعهدة النبوية لمسيحيي نجران والعهدة العمرية لمسيحيي القدس قد أكدت دائمًا أن المسيحيين لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، وأن المسيحيين شركاء فيما للمسلمين وفيما عليهم، ويقع على المسلمين حمايتهم والذود عنهم ومعاونتهم في حياتهم وشؤون دينهم، وألا يكرهوا على التحول الديني، بل إن تعريف المسلم هو من سلم الناس من يده ولسانه، ولكن التساؤل هو عن مدى نجاح المرجعيات العربية في نشر هذه الوثائق والتعريف بها وتكريسها في السلوك اليومي للمسلمين، فما نجده في أحيان كثيرة هو جهل أو تجاهل هذه الالتزامات وتغييبها عن الثقافة العامة.
ويوضح استعراض الأدبيات التي تناولت الحضور المسيحي في المشرق العربي ما بين التأصيل والتاريخ وتحليل الواقع إمكان تقسيم هذه الأدبيات ما بين كتابات دينية وأخرى أكاديمية وثالثة متفرقة، وأن هناك ثلاث موجات لهذه الأدبيات:
الأولى: موجة مرحلة النضال الوطني.
والثانية: موجة مرحلة ما بعد الاستقلال.
والثالثة: موجة مرحلة التناحرات.
وكذلك أيضًا هناك ثلاث مقاربات هيمنت على هذه الأدبيات، وهي المقاربة الاندماجية والمقاربة الطائفية وما يمكن تسميته بالمقاربة المتزاوجة أي التي جمعت بين الاثنتين.
وتناول السياقان الإقليمي والدولي الإجابة عن سؤال كيف يؤثر العامل الخارجي سواء أكان نظامًا دوليًا أم إقليميًا أم منظمات المجتمع المدني العالمي، وأنماط التدخل، والوزن النسبي للمتغيرات الخارجية مقارنة بالعوامل الداخلية، آخذًا في الاعتبار أنه في تناول وضع مسيحيي المشرق العربي نجد مدرستين: أولاهما – مدرسة العوامل الداخلية؛ حيث تتناول قضايا التهميش والاستبداد السياسي الذي يقمع المسلمين والمسيحيين ويوتر العلاقات بينهما (عبدالرحمن الكواكبي) أو ما يذهب إليه البعض من تأثير صعود فكر الحركات السلفية، ويرى أنصار هذه المدرسة أن الحل يبدأ من الداخل، يقابل هذه المدرسة مدرسة العوامل الخارجية كالمواريث الاستعمارية والنظام العالمي ككل بما فيه من صراع على العالم الإسلامي واستثمار الأقليات ودور المنظمات التبشيرية والمجتمع المدني العالمي والعولمة وما يرتبط بها من تدخل لفرض قيم معينة على العالم الإسلامي، مع ملاحظة أنه كلما غاب العامل الخارجي كانت العلاقات الإسلامية المسيحية في داخل البلدان العربية أكثر هدوءًا وسلامًا، فالعامل الخارجي كان له دائمًا دور سلبي في توتير هذه العلاقات.
وعلى هذا، يطرح دور العامل الخارجي أربع إشكاليات تتعلق ببنية النظام العالمي وهيكله وعملياته ومنها العولمة وما تعنيه من تنميط على النسق الغربي، وسياسات القوى الأجنبية كسياسة المحافظين الجدد وإصدار قانون الحريات الدينية ودعم انفصال جنوب السودان والغزو الأمريكي لأفغانستان والعراق، ودور القيم المعيارية، وأثر الانتشار أو العدوى، إلا أن مدى هوة الدولة يظل هو العامل الحاسم في تأثير العوامل الخارجية، فكلما كانت الدولة أضعف كانت أكثر تأثرًا بالعوامل الخارجية.
وفي الحديث عن ذاكرة الموضوع في التاريخ، فمن المعلوم أن المسيحية قد دخلت مصر عام 61 ميلادية وفي عام 313 ميلادية أصبحت المسيحية ديانة مرخصة، ونجد نماذج الحضور المسيحي في الشرق العربي ثقافية واقتصادية وفكرية واجتماعية، مع ملاحظة أن الموروث الاجتماعي المصري مثلا "أطعمة – ملابس – زخارف – عمران – أدب" يتفوق على الدين، وأن حقائق الجغرافيا والتاريخ كان لها تأثيرها الواضح، فقد جاء الفتح الإسلامي إلى مصر في ظروف اضطهاد مسيحيي مصر، والثابت أن الأقباط قد ساعدوا هذا الفتح، واستمر المسلمون يشكلون أقلية في مصر لم تزد في العقود الأولى للفتح الإسلامي لمصر على 100 ألف نسمة، بينما كان عدد سكان مصر يقدر من 3 – 5 ملايين نسمة، ولم يصبح المسلمون أغلبية في مصر إلا في القرن الثالث الهجري، وقد وحد الموروث الاجتماعي المصريين بغض النظر عن دياناتهم، وكان لمسيحيي مصر دور كبير في حركة الترجمة من اليونانية والرومانية بما كان له أثره البالغ في النهضة العربية الإسلامية، أما أسباب الاحتقانات التي كانت تحدث بين الحين والآخر فكلها سياسية واقتصادية ولم يكن لها أي علاقة بالدين.
وفي تناول الحالة المصرية هناك مدخلان إما تناول حالة المسيحيين ككتلة صماء مغلقة، وإما في سياق الشراكة والتفاعل، وقد اعتمد تتبع هذه الحالة على المدخل الثاني في اتجاه لتفسير الحاضر لاستشراف المستقبل، ويتسم المناخ الحالي بوجود حالة من انخفاض منسوب التسامح، وهو مناخ محتقن؛ ويرجع هذا إلى وجود إشكاليات وقضايا مستمرة من وقت بعيد من دون حسم رغم تغطيتها بكتابات ودراسات ومقترحات حلول، ووجود إشكاليات مستجدة هبطت بمستوى الحوار مثل الخلافات الاقتصادية والعلاقات العاطفية ودعوات المقاطعة والأسلمة والتنصير، مع ملاحظة تحول الأقباط إلى جماعة ملية مغلقة وخضوعهم إلى رعاية مزدوجة من الدولة والكنيسة ووجود إحساس بالطعن في العقيدة.. مناخ يتسم بالسجال ونشر الكراهية والعداء ومناقشات ساخنة وعناوين ملتهبة والنظر إلى القضية كغالب ومغلوب، وإثارة قضايا كأصل المصريين وتعداد الأقباط وحالات من الأسلمة والتنصير من دون معلومات وتوثيق، وشيوع هواجس لدى المسلمين ولدى المسيحيين من دون نقاش هادئ وموضوعي، بل تجاهل لها وأصبح الملف الديني بلا صاحب وبلا مرجعية، وهذا الملف يدعو إلى حركة إصلاح تقوم إلى إعادة تأسيس شراكة المواطنة، وحكم القانون، وتنحية العلاقات الإسلامية المسيحية عن الصراع السياسي وإعادة تعريف المجال العام، والتركيز على المفاهيم الأساسية كالمواطنة والمساواة وإعلاء شرعية العيش الواحد، والحرص على عدم استخدام مفهوم الأقلية، وتحقيق فاعلية الدولة والمجتمع، وتحقيق المشاركة المسيحية الكاملة اقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا وفي إدارة سياسة البلاد على أساس المواطنة، وأن حقوق المسيحيين ليست مبنية على فضيلة التسامح، ولكنها حقوق أصلية.
ومن الحالة المصرية نجد أن السودان ذلك القطر العربي الواسع المساحة "2,5 كم" مترامي الأطراف، الذي يتسم بالتعدد الإثني واللغوي والقبلي (600 مجموعة إثنية وأكثر من 400 لغة ولهجة محلية و570 قبيلة) دخلت فيه المسيحية قبل الإسلام الذي دخل السودان من دون جهاد، وكان للكنائس المسيحية دور ملحوظ في جميع مجريات الأحداث الوطنية والسياسية، إلا أنها تعرضت للاتهام بممارسة النشاط التبشيري، ومن ثم اتخذت الحكومة السودانية في أوقات متفرقة إجراءات لتقييد أنشطتها، وفي فبراير 1960 أصدرت قرارًا بتحويل يوم الراحة الأسبوعية في الجنوب من الأحد إلى الجمعة كما أصدرت قانون البعثات والإرساليات التبشيرية عام 1962 واستخدم نفس القانون ضد الكنائس الوطنية بما ولد اتهامًا للحكومة السودانية بأنه ليست هناك حرية أديان مسموح بها في السودان، رغم مساهمة الكنيسة السودانية في دعم التعليم في السودان بأنواعه المختلفة فني – تجاري – صناعي – أكاديمي – ديني، ويعتبر الرعيل الأول من الذين شاركوا في بناء دولة السودان الحديثة خريجي تلك المدارس، هذا فضلاً عن دور الكنيسة في إحياء التراث الإفريقي والهوية الافريقية، وفي المجال الاجتماعي نشطت الكنيسة في إقامة وتنظيم النوادي الثقافية والاجتماعية والرياضية كما نشطت في خدمة أفواج اللاجئين الذين وفدوا إلى السودان من دول الجوار، كما كان للكنيسة السودانية (تضم 12 طائفة مسيحية) دور بارز في إنجاح محادثات السلام في أديس أبابا 1972 ممهدة لسلام استمر 10 سنوات، فضلاً عن دورها في تحقيق التعايش الديني السلمي، وإذا كان ما يشغل السودانيين حاليًا هو موضوع الاستفتاء بشأن مستقبل السودان، فالكنيسة الوطنية السودانية قد بينت موقفها من التضامن في وحدة واحدة تعمل من أجل السلام، وأن أي حل سياسي يختاره الشعب مهما كان هذا الحل فهي تؤمن وتثق أن السلام والوئام لابد أن يقوما على الآتي:
– الإدراك الكامل أن كل الكائنات البشرية هي خليقة الله وجميعها ثمينة وغالية ومتساوية في نظر الله.
– القبول الكامل بأن التراث والثقافة واللغة والاختلافات الاجتماعية هي عطية من خليقة الله لا تحظر ولا تمنع والحري أن تمارس وأن تعتبر من موارد الثروة القومية.
– حرية الأديان في التعبير والعبادة والشهادة.
– الإدراك الكامل أن أي سلام حقيقي دائم لابد أن يتأسس على العدل والمساواة الكاملة لكل المواطنين.
– المشاركة في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية يجب أن تكون مفتوحة أمام الجميع بصرف النظر عن اختلافاتهم الإثنية واللغوية والقبلية.
– إيجاد حل لتوسيع دائرة المشاركة المؤثرة لكل الشعب في التعاملات والمعالجة السياسية للاختلافات كافة.
– المنازعات السياسية والاجتماعية يجب حلها سلميا.
– فتح الحوار المبني على الثقة مع المجموعات المبعدة لأسباب سياسية أو اجتماعية أو دينية لتأخذ دورها في المجتمع.
ويوضح استعراض الحالة العراقية تعرض المسيحيين لصعوبات كثيرة بسبب تنامي الإسلام السياسي والتعصب الديني والتمييز الطائفي، مما دفعهم إلى الهجرة وتراجع أعدادهم، بعد أربعة عشر قرنًا من الاعتدال والتسامح، وإذا كانت نسبة مسيحيي الشرق إلى إجمالي السكان قد تراجعت من 20% إلى أقل من 10% على مدى قرن فقد تناقص عدد المسيحيين العراقيين من نحو مليون شخص إلى نحو 400 – 500 ألف شخص بعد الغزو الأمريكي للعراق في 2003، والمسيحيون العراقيون كما هو معلوم مواطنون أصليون متجذرون في بلدهم الأصلي، وليسوا جالية فهم أبناء الحضارات الأولى أور وبابل ونينوى وكنائسهم عراقية بطقوسها وتركيبها وروحانياتها وأديرتهم مزروعة في طول البلاد وعرضها من بغداد إلى الكوفة إلى الموصل وكردستان، وهم من استقبل العرب المسلمين، وفتح أمامهم مدارسهم ومستشفياتهم وأديرتهم، وكانت لهم إسهاماتهم البارزة في قيام الحضارة العربية الإسلامية، خاصة خلال الخلافة العباسية (إسهامات بخت ياشوع – حنين – ماساوية – يوحنا بن جيلان – المتكلمين يحيى بن عدي وأبو رائطة التكريتي وعلماء بيت الحكمة)، كما كان لهم دورهم في فترة الحكم الوطني في الصناعة والثقافة والصحافة والكشف عن التراث العراقي، ولكن الحرب الأمريكية على العراق أطلقت التطرف الديني والسياسي، وكان المسيحيون أبرز ضحاياه، من حرق أديرة وكنائس (51 كنيسة وديرا) وقتل وتهديد وإجبار على الهجرة واستيلاء على أموال، وأمور عجزت الحكومة العراقية عن منعها، ويرجع الوضع الذي وصلت إليه حالة المسيحيين العراقيين إلى الآتي:
– تنامي الأصولية والمطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية على غير المسلمين.
– بروز ظاهرة الخطاب الديني الضيق.
– استعمال عبارات استفزازية كالكفار والمشركين.
– عدم التمييز بين الدين والسياسة.
– الخلط بين مسيحيي العراق والغرب والعلمانية.
– نفوذ وتدخلات دول الجوار.
– الصراعات السياسية.
وتقتضي معالجة هذا الوضع إدراك ما يلي:
– ان التطرف الديني والمذهبي والقومي لا مستقبل له.
– انه لا أمان من دون وئام سياسي ومصالحة حقيقية.
– أهمية السعي لبناء دولة موحدة.. دولة القانون والمؤسسات بعيدًا عن المحاصصة والطائفية.
وتوضح الحالة الفلسطينية أن أكثر من 70% من المسيحيين الفلسطينيين المقدر عددهم بـ 600 ألف أصبحوا في الشتات، ولم يعد في الضفة الغربية وقطاع غزة سوى 50 ألف فلسطيني مسيحي منهم 47 ألفا في الضفة و3000 في القطاع يتوزعون على كنائس مختلفة (روم أرثوذوكس – لاكين كاثوليك – روم كاثوليك – بروتستانت – سريان وأرمن أرثوذوكس، أقباط وأحباش ومواهنة وغيرهم) ويصل عدد المسيحيين العرب داخل الخط الأخضر إلى 117 ألفا من مجموع سكان 7,7 ملايين نسمة، ويعيش معظم المسيحيين في فلسطين في مدن بيت لحم والقدس ورام الله، ويوجد الكثير منهم في المهن الحرة والصناعة والمصالح الخاصة، ويمكن أن تكون الخلفية المهنية للمسيحيين ذات ارتباط بخلفيتهم التعليمية، غير أن تناقص أعدادهم لا يعود فقط إلى الهجرة التي سببها الاحتلال الصهيوني لفلسطين، وإنما أيضًا لعملية التحول الديمغرافي بتناقص معدلات الخصوبة في الأسرة المسيحية، ويتفق معظم الفلسطينيين أن الدين لا يقف عثرة أمام شمولية الوطن على خلفية أن الدين لله والوطن للجميع، وتعد القدس المكان الأكثر إيلاما في تأثير الهجرة على تناقص عدد المسيحيين الفلسطينيين؛ حيث أصبح لا يوجد فيها غير 11 ألف مسيحي أي 4,4% من مجموع السكان الفلسطينيين في القدس الشرقية البالغ 250 ألفًا، ويعكس تاريخ العلاقات الإسلامية المسيحية في فلسطين ما يلي:
– الأثر الذي تركه الصراع العربي الإسرائيلي بكل أبعاده على السكان ككل.
– مساهمات المؤسسات المسيحية في مجالات التعليم والصحة والخدمات بغض النظر عن الصفة الدينية للذين استفادوا منها.
– وجود الأماكن المقدسة المسيحية واعتراف الإسلام بها "العهدة العمرية عام 638 ميلادية".
– وجود المسيحيين في أماكن سكن مشتركة في المدن مع غيرهم من المواطنين يشاركونهم العيش الواحد بآلامه وآماله.
– اعتزاز المسيحيين بجذورهم القومية والدينية في آن واحد.
ويواجه المجتمع العربي الفلسطيني اليوم بأطيافه الإسلامية والمسيحية تحديين خطيرين.. الأول – هو تحدي الخلاص من الاحتلال الإسرائيلي عبرت عنه وثيقة "وقفة حق" الفلسطينية الصادرة في شهر ديسمبر 2009، التي مثلت خلاصة الموقف الفلسطيني من قضية الاحتلال الإسرائيلي وتجاوزاته وضرورة الخلاص منه، وقد وقع الوثيقة عدد كبير من المسيحيين الفلسطينيين وعلى رأسهم غبطة البطريرك "ميشيل صباح"، وتؤكد أن الخطيئة الكبرى ضد الله والإنسان هي الاحتلال الإسرائيلي الجاثم على الأرض الفلسطينية، كما تؤكد العيش المشترك في فلسطين وتدعو إلى مقاطعة كل ما ينتجه الاحتلال، موضحة أن القدس هي القاعدة الروحية لرؤية الحياة الفلسطينية كلها، وبمقتضى التحدي الثاني فإنه لا يمكن للمجتمع الفلسطيني أن يواجه تحدي النهوض والتنمية من دون تبني الرؤية الشمولية والحياة المشتركة القائمة على المساواة والمشاركة والعدالة، وينبغي التذكير أنه في 1994 وقع اثنا عشر رئيسًا للكنائس المسيحية في القدس والأرض المقدسة وثيقة بعنوان "أهمية القدس للمسيحيين" عرضت مدينة القدس كمدينة مقدسة للديانات الثلاث وتأكيد رؤساء الكنائس أن تكون مدينة مفتوحة للجميع وأهمية حرية الوصول لأماكن العبادة، وأهمية أن ينعم المسيحيون أسوة بغيرهم من المواطنين بنفس الحقوق الأساسية في المجالات الاجتماعية والثقافية والسياسية.
ووسط هذا تبرز توقعات تقول إنه لا مستقبل للمسيحيين الفلسطينيين، وانهم سينقرضون، ولكن يأتي الرد عليها بأن مستقبل المسيحيين الفلسطينيين هو مستقبل وطنهم، وأنهم يصنعون هذا المستقبل بأيديهم، وأن التحدي الأكبر أن يكون الفلسطينيون مسلمين ومسيحيين معا، وهو ما يتطلب أيضا تقارب جميع الكنائس المسيحية وتعاونها والتنسيق بينها وإدراك أن العيش المشترك مع المسلمين هو ضرورة لمواجهة التحدي الصهيوني، ويقتضي استمرار الحوار البناء والتفكير التحرري.
ويرتبط تراجع الحجم العددي لمسيحيي الشرق بالقلق على تراجع أدوارهم في الحياة العامة وإثارة قضية الهوية والحضور والتكيف في الخروج من عالم الملة إلى عالم متنازع بين تشكيلات تقليدية وأخرى حديثة، ويظهر هذا بشكل واضح في تقلص الوظائف التقليدية والوسيطة بين الدولة ورعاياها التي قامت بها الكنيسة فيما مضى، وباتت أحوال المسيحيين في العالم العربي تراوح نفسها بين ضدين الأول المشاركة وتطرحه الخيارات القومية الوطنية بصور متفاوتة، والثاني الطائفي وهو الذي ارتفع أخيرًا صوته بشكل مزعج، كما نجد في الحالة اللبنانية؛ حيث توجد 11 طائفة مسيحية كل منها لها مؤسساتها وتشارك في السلطة مع مختلف الطوائف الإسلامية، والطائفة هي شبكة قرابة كبرى، وإذا كان مسيحيو لبنان قد لعبوا دورا نهضويا كبيرا في القرنين التاسع عشر والعشرين ودورا رياديا في الاقتصاد المحلي والإقليمي، إلا أن أسبابًا ديمغرافية واقتصادية واجتماعية وسياسية كانت وراء تناقص وضعهم النسبي في لبنان، فبينما كانوا يمثلون نحو 55% من السكان في 1922 تراجعت نسبتهم إلى نحو 43% في 1995، وأصبح المسلمون أكثرية، وشهدت الهجرة معدلات كبيرة منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي بسبب ارتفاع مستوى التعليم وشبكات المهاجرين في دول المهجر والانهيار التدريجي للقطاعين الزراعي والصناعي، إلا أنه يضاف إلى أثر الهجرة تراجع الوضع الاقتصادي النسبي للمسيحيين اللبنانيين وتآكل وضعهم السياسي، وإن كان هناك تحسن قد طرأ على أوضاعهم بعد عام 2005 ظهرت آثاره في نتائج انتخابات 2009، إلا أن مستقبل الحضور المسيحي في لبنان يرتبط ارتباطا وثيقا بتبني نهج العيش المشترك القائم على المساواة والعدالة آخذا في الاعتبار أن هذا الحضور كان باستمرار عامل ثراء ثقافي واقتصادي وسياسي، وأن هذا الثراء لم يكن للبنان وحده ولكن لمحيطه العربي، وفي الحالة اللبنانية ينبغي التركيز في الآتي:
– ان الوحدة المسيحية ضرورة ملحة.
– ان المسيحي سفير المسيح الخادم الأكبر للعالم بما يعني إعادة إطلاق دوره الاجتماعي.
– التربية مبدأ أساسي للرسالة المسيحية.
– الحوار الإسلامي المسيحي حياة مشتركة تتجسد في مظاهر الحياة العامة والخاصة، ولا يمكن تصور لبنان بدون تعايش مشترك.
– الكنيسة ليست مؤسسة سياسية ولكنها لا يمكن أن تكون محايدة سياسيا.
وقد انطلق البيان الختامي للمؤتمر من الاهتمام العربي الإسلامي بالقضايا التي تتعلق بالتبصر بأوضاع العرب المسيحيين معربا عن القلق من اتساع الهجرة المسيحية من بعض الدول العربية، وما تسببه من استنزاف لمجتمعاتها وإساءة لنموذج العيش الوطني المشترك، كما انطلق من الحرص على سلامة العلاقات المصيرية المسيحية الإسلامية، وتأكيد التضامن الوطني في مواجهة التحديات وبناء الدولة الوطنية التي تحقق العدالة والمساواة بين أبنائها جميعًا، وأكد البيان الآتي:
1 – ان ما يعانيه المسيحيون العرب يعني في الوقت ذاته المسلمين العرب.
2 – ان هذه المعاناة تشكل حافزًا لعمل إسلامي مسيحي مشترك يحافظ على الحضور المسيحي العربي في النسيج الاجتماعي العام.
3 – أهمية الاندماج الكامل للمسيحيين العرب في إطار الحضارة العربية الإسلامية التي تدعم هويتهم العربية.
4 – ضرورة إعادة قراءة التاريخ إسهاما في تجديد دور المسيحيين العرب واقعًا ومستقبلاً.
5 – بناء دولة القانون .
6 – نشر ثقافة المواطنة وتدعيم الثقة المتبادلة والتنبه لمحاذير الاستغلال الخارجي، وتأكيد أهمية النضال الحياتي المشترك.
7 – ضرورة أن يظل ملف العلاقات الإسلامية المسيحية بعيدا عن سوء التوظيف.
8 – التزام وسائل الإعلام والاتصال بمسؤولية الكلمة.
9 – بناء رؤية استراتيجية أصيلة للعلاقات الإسلامية المسيحية تسمو بهذه العلاقات من الوقوع في أسر الحدث العابر.
10 – مناشدة المرجعيات الدينية المسيحية والإسلامية والرموز الثقافية اعتماد مبادئ الحوار الأخوي أساسًا وحيدا لمعالجة الاختلافات.