مأزق القوميين
الوحدة العربية مازالت الخيط الرفيع لكل العرب وإن تفرّقت الأنظمة
الكثيرون من الكتاب السياسيين والاجتماعيين العرب داخل وخارج بلادهم نعوا الوحدة العربية منذ أكثر من عقد من الزمن، كما نعت بعض الصحف الغربية والشرقية الشيوعية السوفياتية، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في بداية عقد التسعينات من القرن الماضي. وهنا يمكن القول بأن الصحيح هو نعي وحدة الصف العربي أو التضامن العربي المستند إلى قرار من الأنظمة العربية، إنما القول بنعي الوحدة العربية فهذا قول خطأ وخطأ كبير لأن الوحدة العربية من صنع الجماهير وهي أداتها وغايتها.
كما يمكن القول أيضا بأن الوحدة العربية لم تؤجل أو تلغى في يوم من الأيام من فكر الجماهير العربية حتى في أسوأ الظروف العربية وإنما قرار إلغاء الوحدة العربية كان ولا يزال قرار رسمي من أنظمة الذل والهوان المرتهنة بالتبعية للإمبريالية ولمحافل الشر العالمية. والدليل على ذلك أنه منذ ما قبل العدوان الثلاثيني الأمريكي الأطلسي وبمشاركة الأنظمة العربية ضد العراق في بداية عام 1991 كلها ودون استثناء بنسب متفاوتة حتى الصامتون منهم كان لهم دور في تدمير العراق ومن ثم احتلاله من قبل تحالف قوى الشر الصهيو-فارسي-الأمريكي-الأطلسي معاً، فأن حركة الجماهير العربية لم تتوقف عن العمل والسعي لتحقيق الوحدة العربية المرجوة بكافة السبل، رغم الفشل المتعاقب في تحقيقها بسبب الأنظمة الناطقة بالعربية وجامعتهم وقممهم التي صارت أداة لتكريس الانقسام وتحقيق "منجزات" "سايكس-بيكو" القديم ومشروع "إعادة رسم خارطة المنطقة" الصهيو-بوشي الجديد، وبذلك باتوا سبّة للجماهير في كل مكان.
مقابل ذلك ماذا يمكن أن نسمي هذه الحقبة من التاريخ العربي؟ باختصار أن الذي نعيشه ومنذ بداية تسعينات القرن الماضي يصح أن نسميه (العجز العربي)، هذا العجز الذي يتسم بالتشرذم والتفكك، الذي أدخل البلاد العربية مرة أخرى في النفق المظلم، وكما ذكرت أن السبب هو مواقف الأنظمة العربية وليس بسبب الجماهير العربية المؤمنة بحتمية الوحدة العربية. وأشير هنا إلى أن البلاد العربية لم تعرف فترة نقاهة في تاريخها المعروف والمقروء فهي ومنذ حملة هولاكو الأول ضد عراق التاريخ والحضارات مروراً بفترة الاستعمار العثماني (التركي) الذي دام أكثر من أربعمائة عام، وصولاً إلى غزوة هولاكو الجديد – أي بوش الصغير – لم تخرج عملياً من النفق المظلم.. فهولاكو الأول اندحر تلحقه لعنة التاريخ، وهولاكو الجديد ستلحقه ليس لعنة التاريخ فحسب بل ولعنة الشهداء وكل أيتام وأرامل ومعوقي ومرضى الأمة العربية.
من هنا أرى أنه من واجب مثقفي الأمة العربية الأمناء على روح الوطنية وأصالة القومية العربية، أن يتصدوا للوضع المؤسف الراهن كل بحسب قدرته وطاقته، مسترشدين بتاريخ الأمة وحضارتها وتجاربها عبر العصور، لأن تعاضد المثقفين أصبح اليوم أمراً ملحاً أكثر من أي وقت مضى من أجل النهوض بمستقبل الأمة التي لم تركع إلا للخالق عز وجل. ولزيادة التوضيح نقصد بالمثقفين هنا ليس كل من حمل قلم أو عرف الكتابة أو القراءة، لأن الكثير منهم خاصة بعض الذين يحملون ألقاب أكاديمية باتوا هم في حقيقة الأمر عالة على المجتمع العربي وسبباً في تفكك عرى ترابطه.
وبما أن اختلاط الرؤى وأبعادها حول القضايا العربية، ومنها قضية العرب الشرفاء المركزية فلسطين، إضافة إلى قضية العراق، وبروز قضية الطائفية والتفتيت المذهبي، كل ذلك يؤشر إلى المهمة الشاقة الملقاة على عاتق المثقفين تجاه العمل المنظم من أجل تحقيق الوحدة العربية ودعم النضال الوطني والقومي والترابط بينهما مقابل العجز الرسمي العربي، وأنه من الواجب علينا جميعاً عدم التغاضي عن حقيقة مطالب الأمة والتعبير عنها في سبيل تحقيق آمالها وطموحاتها، والتأشير إلى أسباب حقيقة العجز العربي لا التغاضي عن أسباب هذا العجز تحت أعذار واهية مثل "الواقعية" و"الشرعية الدولية" كما يسميها البعض، لأن الواقع الحالي مفروض علينا، والسياسات العربية الراهنة لا يمكن وصفها إلا بالسياسات الذيلية أو التابعة للمحافل الصهيونية العالمية التي تقودها الإدارات الأميركية المتعاقبة، كما سيديرها أوباما في حال فوزه في الانتخابات الرئاسية الأمريكية القادمة لأنه لن يكون سوى حجر شطرنج على طاولة "لعبة الأمم".
إن مضمون العجز العربي الراهن مجسد أساساً في عدة ظواهر واضحة وضوح الشمس في كبد السماء، أهما العجز عن مجابهة الصهيونية العالمية ورمزها الكيان الصهيوني الغاصب لفلسطين المحتلة الذي يعمل ليل نهار على ضرب مفهوم الوحدة العربية وتوسيع الفجوة بين صفوف الجماهير العربية، خاصة في الدول التي تم تأسيس مجموعات أو لجان فيها لمناهضة التطبيع مع الكيان الصهيوني، وهم في ذات الوقت يرددون كلمة (اسرائيل) وهذا بحد ذاته ترسيخ في الأذهان للكيان الصهيوني.. بينما بعض المجموعات المناهضة للتطبيع الأخرى فهي في الواقع لا ترفض التطبيع مع الكيان الصهيوني بشكل مبدئي وعام وإنما ترفض التطبيع من أجل الحصول على مكاسب معينة على سبيل المثال: (الحصول على القدس الشرقية عاصمة لفلسطين) أي أن هذه اللجان شبيهة مواقفها بمواقف الأنظمة العربية التي قبلت باستبدال جملة الصراع العربي الصهيوني وهكذا دواليك ولا داعي هنا للتفنيد أكثر من ذلك هذا أولاً.
وثانياً إن التغييب الكامل لمشروع قومي عربي صحيح مبني على ثوابت وأسس راسخة تلتزم به الأطراف العربية المؤمنة به رغم كل الظروف، وتوضيح هذا المشروع الذي يحمل صفة المشروع الحضاري العربي.
ثالثاً وهو الأهم في هذا المجال كيف العمل على تحقيق هذا المشروع ضمن حالة تبعية الأنظمة العربية للإمبريالية الأميركية المتمثلة في جامعة الدول العربية والتي لا تسمح وبأي شكل من الأشكال الخروج من إطار الواقع المفروض، وكل يوم تخلق بعض الأنظمة قضية جديدة تحت مسميات ثقافية كما حصل في مصر وفي الأردن وفي اليمن بحيث بات هم المثقف وأينما كان الدفاع عن المثقف الآخر بغض النظر عن صوابية أو صحة رأي هذا المثقف أو ذاك.
إن الأمثلة على العجز العربي الرهن كثيرة، والشلل الذي أصاب الجسد العربي له أبعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ففي حين كنا في الماضي نقاتل من أجل إزالة الحدود المصطنعة التي خلفها الاستعمار الفرنسي والبريطاني تحت مسمى اتفاقية (سايكس-بيكو) وتحقيق الوحدة العربية والقضاء على ثالوث الفقر والجهل والمرض، فقد أصبحنا اليوم نتقاتل من أجل مسميات لا صلة لها بحقيقة وأصالة الأمة العربية، وتاريخها ووحدتها، بل على العكس من ذلك أصبحنا نتقاتل من أجل تثبيت الحدود التي فرضها علينا الاستعمار الفرنسي والبريطاني، وآخرها الصراع التبعي والذيلي في لبنان من أجل فتح سفارة لسوريا في العاصمة اللبنانية بيروت وإعادة ترسيم الحدود السورية-اللبنانية!
فالمطلوب اليوم من أجل مواجهة حالة عجز الأنظمة العربية، العمل من خلال الجماهير العربية التي هي بحاجة إلى عمل منظم وكفوء لمواجهة تحالف قوى الشر الصهيونية التي تقودها الولايات المتحدة الأميركية بإداراتها المختلفة.
كما أن العجز العربي الراهن هو حصيلة غياب المشروع النهضوي القومي الصحيح الذي استبدله معظم المثقفون إلى ما يسمى بـ (الأمن القطري) أو (المنهجية القطرية) بصيغة "الأردن أولاً" و"غزة وبس" و"مصر أولاً" و"لبنان أولاً" وهكذا، وهو المعمول به حالياً في البلاد العربية مع الأسف الشديد، على الرغم من وجود مجلدات في أدراج جامعة الدول العربية وفي مراكز البحوث والدراسات غير الرسمية وفي مكاتب الأحزاب والمنظمات العربية كلها تدعو إلى "العمل" على تنفيذ اتفاقية الدفاع العربي المشترك، وكلها بقيت حبراً على ورق، وتحولت إلى مؤسسات "مدين ونشجب ونستنكر وندعو ونطالب" وما إلى هنالك من كلمات في قواميس اللغة العربية. فعلى سبيل المثال وبقراءة سريعة لمجريات الوضع في لبنان نجد أنه تعرض إلى هجومات لا تحصى من العدو الصهيوني واحتلت أرضه وحوصرت عاصمته، دون أن نرى أي دفاع عربي مشترك سوى بيانات الإدانة والاستنكار التي لم ولن ترمم منزلاً أو تبني جسراً أو محطة لتوليد الطاقة تم قصفهم وتدميرهم من قبل العدو الصهيوني!.. كذلك تعرض السودان إلى قصف وتدمير من قبل طائرات وصواريخ الولايات الأميركية المتحدة، والصومال تعرض للاحتلال الأميركي، وارتيريا تعرضت للعدوان والجماهيرية الليبية تعرضت للعدوان والقصف الأميركي وتم تدمير الأحياء السكنية وقتل الأبرياء في منازلهم، والعراق تعرض للغزو والاحتلال وإلى قصف وتدمير وقتل الأبرياء الآمنين في منازلهم وفي المصانع والمدارس وفي الحقول الزراعية، وإلى قصف بأسلحة تفني البشر والحجر من اليورانيوم المنضب إلى قذائف النيوترون، التي وبحسب الخبراء لا تزول آثارها لمدة تزيد عن الخمسين سنة وبعضهم يقول 500 سنة! كل ذلك انطلاقاً من أراض عربية في الخليج العربي ومن قواعد في الجزيرة العربية وبلاد نجد والحجاز، إضافة إلى قاعدة "انجرليك" في تركيا.. وبالطبع لا ننسى فلسطين التي تتعرض يومياً ومنذ عام 2000 لعدوان يومي وقصف وقتل الأطفال والأبرياء في شوارع، ووفي القرى والبلدات الفلسطينية دون