ليس شرطاً أن تشفي الحقيقة روحاً مجروحة
محمد عبدالله محمد
صَدَرَ تقرير اللجنة البحرينية المستقلة لتقصي الحقائق. الجميع يهمّه ذلك التقرير، لكن كثيرين أيضًا قد لا يهمُّهم التقرير! في الفرض الأول، فإن الأطراف كلها أرادت أن تستمع لما تقوله اللجنة بشأن ما جرى منذ فبراير ولغاية آخر ساعة من ساعات إعداد التقرير. وفي الفرض الثاني (وهو الأهم)، فإن ضحايا ما جرى، لن يُشبعهم أن يُقال أن فلانًا قد أدِيْن؛ لأن ذلك لا يعدو كونه رد اعتبار معنوي له لا أكثر من ذلك ولا أقل، ما لَمْ يروا تطورات مادية لصالحهم.
أيضًا، هم يعتقدون، أن الحيْف الذي وقع عليهم كان في ظرف مطالبتهم بحقوقهم السياسية، وبالتالي فإن إدانة مَنْ أساء لهم وكفى، دون النظر إلى حلحلة ما كانوا يطالبون به، يفسد أمامهم فرصة النظر إلى التقرير بشكل إيجابي، ما يعني أن الإشكال بحاجة إلى حل سياسي. أيضًا، من غير الأكيد أن يكون التقرير قادرًا على بلسمة جرحهم. فليس شرطًا أن تشفي الحقيقة روحًا مجروحة كما كان يقول الناشط السياسي الروسي مكسيم غوركي، لكن ذلك لا يعني أن ننغمس في السوداوية والعدميّة السياسية التي لا حدّ لها ولا أفق.
كلنا مجموع أدمَتهُ أحداث فبراير ولغاية الآن. ومَنْ لم تكن قد أدمته فقد خَدَشته في قلبه. بَكَينا جميعًا على أناس ظلِمُوا وانتهِكَت حقوقهم بشكل صريح لا يقبل الشك ولا ليّ الحقيقة مهما قيل. وبكينا على ضحايا سقطوا بلا ذنب ودون جريرة، فالنسبة والتناسب بين فعلهم وبين فعل خصمهم بحقهم غائبة ولا تقارَن. هذا مبدأ إنساني عام، رغم أن الجردة السياسية بعد هذا التقرير يجب أن تكون من الجميع دون استثناء.
ثلاثة وأربعون ضحية في مجتمع صغير هو كارثة. فإن كان تعداد نفوسنا نحن البحرينيين مليونًا فهذا يعني، أننا فقدنا 3440 ضحية لو كنا بحجم مصر. وإن كان تعدادنا نصف مليون فهذا يعني أننا فقدنا 3096 ضحية لو كنا كتعداد الجزائر. وبميزان العقل، فإننا كنا نفقد 344 ضحية في كلّ شهر لو كنا مصريين. وبميزان العقل أيضًا، فإننا كنا نفقد 309.6 ضحية كلّ شهر لو كنا جزائريين. فمسألة الدم من المسائل المخيفة في الأزمات السياسية.
أمام كلّ ذلك الانكسار، وهزيمة العاطفة لصالح الاستئساد وغلواء القوة، ينبلج أمامنا أملٌ كبير. لا أريد أن أقول أن ذلك الأمل هو إفطار جيد، لكنه عشاء سيء، مثلما قال الفيلسوف الإنجليزي فرانسيس بيكون، لأن الأمل الذي نرومه هو من أجل هذا الوطن وناسه. وما دام هو كذلك، فلن يكون عشاؤنا فيه سيئاً أبدًا، فكلّ شيء من أجل البحرين يرخص، من الدَّم وحتى أقلّ شيء نملكه، وهو ما يجعل أملنا بعد صدور هذا التقرير يولد ويكبر ثم يزدهر دون أن يتحجر.
اليوم أزمة البحرين السياسية قد تم تسجيلها دوليًا على شكل تقرير سيقرأه العالَم بأسره، وستوضع أدواته المادية في عهدة جهات قضائية أممية. والمعارضة السياسية التي كانت تنافح من أجل أن تهزم الحكومة في الإعلام والمنظمات الدولية وأمام الرأي العام العالمي، استطاعت أن تغرس عَلَمًا في ساحة الخصم. خطابها السياسي سُجِّل، وآليات عملها سُجِّلت أيضًا. كما أنها حازَت على براءة من تهمة الارتهان إلى الخارج، فضلاً عن وقوع انتهاكات بحقها، وهما أهمّ علامتيْن تضمنهما التقرير بشكل واضح، وهما أيضًا ما يريد العالَم أن يسمعه ويتثبَّت منه، وبالتالي فإنها كسبت جزءًا مهمًا من الجولة. لكن هذا الكسب، لا يؤسس إلى نصر تذكاري مُجرَّد، بقدر ما يُؤسس إلى وعي سياسي أكثر واقعية.
الدولة، وصَلتها رسالة تجريم جزء من منتسبيها، وطريقتها العنفية الخاطئة في تعاطيها مع الأزمة. وهنا، لا تجد الدول الحصيفة غضاضة في أن تقول ذلك أو تقرّ به. فالدول، لا تقوم على العصبيات، ولا على الإصرار غير المبرر على السياسات التقليدية، وإنما هي بمثابة النهر، إن توقف جريانه أدَّى إلى تعفن مياهه. وبالتالي فإن التصحيح والتقويم العملي (وليس النظري) هو الأفيد في مثل هذه المواقف. فمثلما الدِّين معاملة، فإن السياسة مُعاملة أيضًا، والعدل معاملة، والأخلاق معاملة، والمساواة معاملة، وكلّ ما يتصل بذلك، تصدّقه المعاملة.
البحرين، أرضٌ جغرافية صغيرة، وناسها كلّ منهم يسمع سُعال الآخر من قربهم لبعضهم، بل إن كلّ زيجة تقع، فإنها تزيد من تداخل الأرحام والأنساب، حتى غَدَت البحرين أسرة واحدة بحق. لذلك، فمن الظلم لها أن نعيث في مستقبلها فسادًا، في الوقت الذي تعتبر هي فيه دوحة براقة في إقليم متلاطم الأمواج، تتفنن فيه الدول العظمى بسياساتها، وتعبث بأمنه صَرَعات الجهل، وقِصر التفكير. وبالتالي تصبح المسئولية على الجميع كبيرة، وبالتحديد على الدولة، التي يفترض أن تكون راعية الجميع، وذات صدر كبير في التعاطي مع شئون شعبها، فآلة الرئاسة سِعة الصَّدر مثلما قيل. هذا ما نتمناه بحق وصدق لهذا البلد الحبيب، الذي يستحق منا حبًا أكبر من حبنا لأنفسنا
صحيفة الوسط البحرينية – العدد 3367 – السبت 26 نوفمبر 2011م الموافق 30 ذي الحجة 1432هـ