في أسبوع واحد شهدت ليبيا مصرع الرئيس الليبي العقيد معمر القذافي، وابنه المعتصم ووزير دفاعه أبو بكر يونس، وسقطت المعاقل الأخيرة التي بقيت على ولائها لنظامه . وشهد يوم الأحد من هذا الأسبوع، إعلان تحرير ليبيا، في مدينة بنغازي، ونهاية مرحلة “الثورة” .
في حدثي مصرع العقيد وإعلان التحرير، كما في طريقة سقوط العاصمة طرابلس، دلالات تجعلنا نحجب عن التفاؤل في التعافي السريع لهذا البلد العزيز، وتوجهه باتجاه بناء دولة العدل والقانون . نركز هنا على مسألتين، ونناقش تداعياتهما المحتملة . الأولى: تركيبة المجتمع الليبي المتسمة بالقبلية، وغيبة مؤسسات المجتمع المدني، وعدم ترسخ مفهوم الدولة بمكوناتها الحديثة، وأيضا فراغ البنية السياسية، التي لم تتشكل أصلاً في تاريخ البلاد . والمسألة الأخرى، العلاقة مع الناتو، وتأثيراتها في شكل النظام المرتقب .
في المشهد الليبي، يبدو أننا أمام وضع أعقد بكثير مما جرى في العراق، إثر الاحتلال الأمريكي، بما لا يرجّح القول بإمكانية الاستفادة من نموذج العملية السياسية التي نفذت بالعراق . لقد أعقب سقوط الدولة الوطنية في العراق، قيام المندوب السامي الأمريكي، بول برايمر، بهندسة وتنفيذ عملية سياسية في أرض السواد، بطريقة اتسقت مع الأهداف والاستراتيجيات الأمريكية .
في ليبيا، جرى إلغاء الدولة التي نشأت بعد الاستقلال، ولم يتبقَّ شيء من هياكلها، وتزامن ذلك مع تدمير للبنية التحتية . والوضع مختلف تماماً عنه في التجربة العراقية، فحلف الناتو لم يعلن نفسه قوّةَ احتلال لليبيا، وتوصيف ما قام به هو تنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي بحماية المدنيين الليبيين، ولذلك لم تحمل أجندته المعلنة، خريطة طريق لمستقبل ليبيا ما بعد القذافي . هذا أمر . .
أما الأمر الآخر، فإن القوى الدولية التي أسهمت في القضاء على نظام العقيد، وهيأت للمعارضة الليبية الوصول إلى السلطة، غير متجانسة في أهدافها ورؤيتها لمستقبل ليبيا . ويحكم هذه القوى، سياسة الباب المفتوح، حيث تفتح أبواب التنافس على مصاريعها . وربما ينتج عن ذلك وجود مناطق نفوذ داخل ليبيا، كل منطقة تخص واحدة من القوى التي كان لها الدور الأساس في إسقاط “الجماهيرية”، وعودة “علم الاستقلال” .
وإذا ما وضعنا في الاعتبار المسلّمة المعروفة في العلوم السياسية، بأن العلاقات الدولية تقوم على المصالح، ويحكمها قانون التنافس وصراع الإرادات وتوازن القوة، فمن غير المرجح أن تترك مجموعة الناتو ليبيا لأهلها يديرون أمورهم كما يشاؤون . فهذه القوى لم تقم بعملها لخاطر عيوننا، ولم تكن الأوضاع الإنسانية التي عاشها الليبيون في ظل النظام السابق، هي الدافع الوحيد لتحركهم، فللنفط الليبي، جاذبيته وسحره .
ما هو البديل والممكن ليبيّاً، في ظل التنافس الدولي وصراعات القبائل؟ . . هنا يطرح سياسيو الغرب، وبعض الليبيين في السلطة الجديدة، إمكانية قيام نظام لا مركزي، دون تحديد شكله . هل يكون فيدرالياً، أو ما هو أقل منها، شكل كونفيدرالي على سبيل المثال . . تلك قضية يصعب الجزم والتقرير فيها، في هذا الوقت . لكن المستبعد هو أن تعود ليبيا إلى وضعها الاندماجي الذي كانت عليه، قبل الأحداث الأخيرة . فدعاة اللامركزية قد باشروا فعلياً مهمة التنظير لها . وطرحوا اتساع رقعة الأراضي الليبية، ووجود مكونات قبلية غير متجانسة، وكيانية معاصرة للدولة ارتبطت بالاستقلال، كأسباب لإنهاء مرحلة الدولة الاندماجية .
ما علاقة هذه القراءة بالمقدمة التي استفتحنا بها هذا الحديث: سقوط العاصمة طرابلس ومصرع القذافي، والاحتفال ب “تحرير ليبيا”؟ والتي جعلتنا نحجم عن التفاؤل كثيراً في القادم من الأيام؟
في سقوط طرابلس شهدنا دراما هوليوودية، وفي مصرع العقيد تراجيديا وملهاة إغريقية، هكذا برز المشهدان، أو هكذا أريد تمثل صورتهما . في المشهد الأول، أحد كوادر تنظيم القاعدة يقود عملية “تحرير” العاصمة الليبية “طرابلس”، بعد توطئة من الناتو، بقصف جوي استمر عدة أشهر أحال مقر العقيد في باب العزيزية إلى ركام . واقتحام العاصمة لم يتم بجيش منظم بل بطريقة الفزعة، وبشكل أقرب إلى حروب القبائل . . كل قبيلة ترفع رايتها، ولا يوجد من جامع بين الغرماء سوى القضاء على السلطة التي احتكرت العنف في السابق، ليصبح العنف ملكية جماعية ليس من حق أي طرف احتكاره .
في عملية اغتيال، القذافي أو قتله، قام الأطلسي بما هو أبعد من التوطئة ليصل إلى حد التنفيذ المباشر للعملية، وفقاً لتصريحات الفرنسيين أنفسهم الذين أعلنوا مشاركة استخباراتية أمريكية وفرنسية وإيطالية لرصد موقع القذافي . ليس ذلك وحده، بل أبعد من ذلك بكثير، فالقوة الجوية الفرنسية أعلنت أنها قصفت سيارتين إحداهما سيارة العقيد الذي جرح من جراء القصف، واضطر إلى ترك السيارة والترجل، لتتلقفه قبائل مصراته، وتلقي القبض عليه وهو حي، ولتتم تصفيته بالطريقة البشعة التي تناقلتها أجهزة التلفزة . وهنا بقي الدم في مصراته ولم يتوزع دمه بين القبائل الليبية .
هل توحي مشاهد فتح العاصمة، والطريقة التي تم فيها التخلص من العقيد، والتي شهدها العالم بأسره، عبر الإنترنت وأجهزة التلفزة، أننا أمام دولة العدل والقانون؟ وهل يتيح غياب الحركة السياسية، وعامل التراكم التاريخي الذي هو شرط الانتقال إلى الديمقراطية، تحقق هذا التحول مع غياب كامل لعناصره؟
ويبقى السؤال عن مهرجان التحرير الذي جرى في بنغازي . ماذا يعني ذلك؟ لقد جرى خلال الستة عقود المنصرمة إسقاط نظم سياسية عديدة في الوطن العربي وبلدان العالم الثالث، إما بالانتفاضات الشعبية، وإما بالانقلابات العسكرية . . . غيرت بلدان كثيرة من نظمها السياسية، ولم يقل أحد إن تلك الانتفاضات أو الانقلابات هي تحرير للبلاد .
مصطلح “التحرير” جرى استخدامه في حالتين فقط، كلتاهما حدثتا في العقد الأخير، هما حالتا العراق وليبيا، وكلتاهما تمتا بوسائط من الخارج . الأولى في صيغة احتلال معلن لأرض السواد، تم خارج الشرعية الدولية، ولم يصدر فيه قرار من مجلس الأمن، والثانية، تمت بدعم من مجلس التعاون الخليجي وجامعة الدول العربية، وقرار أممي صادر عن مجلس الأمن، لكن ذلك لم يغير كثيراً في تعابير “التحرير” . هل يكون ذلك التشابه في النتائج محض مصادفة؟ أو أن ثمَّةَ ترابطاً بينهما؟ أسئلة معلقة ستتكفل الأيام المقبلة بالإجابة عنها، وما علينا سوى الانتظار ضارعين إلى المولى عز وجل أن يجعل نتائجها برداً وسلاماً على شعب ليبيا الشقيق .