غريب أمر بني الإنسان الذين لم يعوا بشكل متوازن سر الخلق وتنوعه واختلافه، فإحدى السنن الإلهية في الخلق تقوم على الاختلاف والتنوع وهو يمثل أحد مظاهر القدرة وإعجاز الصنعة في الكون، يقول سبحانه ''ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين'' وفي آية أخرى ''وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا'' بل أن فرادة الخلق جعلت لكل مخلوق سمات لا يمكن أن يشترك فيها مع الآخرين، فاكتشف العلم بصمة الإبهام التي اعتمدت في الدلالة على الفرد كصفة خاصة لا يشاركه فيها أحد، مصداقاً لقوله تعالى ''بلى قادرين على أن نسوي بنانه'' فهل هناك من تقنية لتحديد فرادة الشخصية كالبصمة هذه التقنية الإلهية التي أوجدها الله في أصبع الإنسان لتميزه عن غيره. ذلك الإصبع الصغير، محدود المساحة. حتى اكتشفها الإنسان كوسيلة آمنة لتحديد هذا الشخص عن ذاك مهما تباعدت أماكنهم، أو تنوعت ألوانهم. ثم جاء اكتشاف بصمة العين التي تستخدم حالياً للكشف عن الشخصية وبشكل أكثر سرعة، وأخيراً البصمة الوراثية التي تسمى (DNA) التي أصبحت فتحاً جديداً في العلم للتعرف على الشخص والأنساب. من كل تلك الشواهد نستشف الدليل على أن الخلق متنوع ومتفرد، وأن الكون والحياة قائمة على احترام الاختلاف، وما ينطبق على الخلق ينطبق من باب أوسع على الفكر، إلا أننا نجد تعدي الإنسان على الفكر مستمراً ومتواصلاً، ليس فقط فيمن تطلق عليهم صفات الديكتاتورية والتسلط، بل وبشكل أكثر شراسة في أوساط الغرب مدعي الديمقراطية واللبيرالية، بأن يحاول كل فرد أو مجموعة فرض فكرة معينة أو رأي خاص على الآخر ضمن منطق الهيمنة والتنميط التي بها يكمن الصراع ولعل أبشع صور تلك الهيمنة هي محاولة اليمين المتصهين الأميركي فرض استعمار الشعوب من جديد، بل وفرض نمط الحياة الأميركي على العالم أجمع حتى أضحى افتتاح أول مطعم للبرغر في إحدى دول المعسكر الشيوعي سابقاً فتحاً في اختراق ذلك المعسكر. فهل تغافل هؤلاء عن أن الفكرة محلها العقل، حتى برز عندنا من يدعو إلى محاسبة النوايا، إننا نرى أن الأحادية عموما ونفي الآخر وعدم قبوله ظاهرة مرضية خطيرة تسللت وعشعشت ضمن المدارس الفكرية والسياسية عموماً، وهي ظاهرة لا تنجب سوى العزلة، لأنها ترتوي بنفسها فقط دون السماح لغير فكرها بالوجود، وهذه العزلة لاشك أنها مهما تعاظم مريدوها في فترة زمنية، فإنها تحمل مكونات نقضها وتلاشيها، كونها تفرض حدوداً صارمة على منتسبيها، تمنع فيه التبادل الثقافي والتغيير الملائم والتجدد، وفقاً للاحتياجات السياسية والاقتصادية. والأخطر في تلك النظرة هو محاولات إضفاء القدسية على آراء وأفكار ومواقف بعض الزعماء السياسية ونسبتها إلى الدين وبأن الناطق بها هو القيم على الدين، وفي ذلك التشتت والتكفير، حيث ستعتبر كل فرقة من الفرق بأنها الناجية والأخرى في النار، لذا فإن أول أولويات العمل الوطني في زماننا الحاضر يكمن في تأسيس أدب الاختلاف واحترام الآخر.