كان واضحاً لدى راسمي سياسات وبرامج إعادة صياغة المنطقة سياسياً وجغرافياً، أن نجاح تلك السياسات والبرامج لن يتحقق ما لم تسبقها مرحلة إعادة صياغة كاملة لكل المنظومة الفكرية والثقافية في المنطقة، وخلق قيم جديدة تضمن قبول مجتمعاتها لتلك السياسات أو عدم معارضتها كحد أدنى.. وهذا ما تم عمله خلال العقد الأخير من القرن الماضي الذي اعتبر جسراً للعبور إلى القرن الجديد الذي بدأ حافلاً بوقائع وأحداث لم تكن لترد في توقعاتنا البسيطة قبل حدوثها.
تشير كل الظواهر إلى أن برامج إعادة الصياغة الفكرية والثقافية تلك قد تم برمجتها لتتناسب مع المستوى الثقافي لمختلف القطاعات والفئات العمرية والمجتمعية والرسمية العربية، بدءاً بالقطاعات المتنفذة ممثلة في الجيل الجديد من القياديين العرب الذين استلموا السلطة أو في طريقهم لاستلامها، وقطاعات الشباب من رجال الأعمال العرب الذين تبنوا الرؤية المادية الأمريكية في تسيير شؤون العالم، كما تبنوا الليبرالية الغربية بدون معرفة حقيقية بمفاهيمها، وإنما تيمناً بالأمريكي وما يمكن أن يحققه لهم من مصالح.. وانتهاء بقطاعات واسعة من النخب السياسية التي ترنحت طويلاً تحت شدة الضربات التي وجهت لهم ولمفاهيمهم الأيديولوجية التي تم تخطيئها وتكفيرها مما جعلهم مستعدين لتبنى أية أفكار أو مفاهيم ثقافية جديدة يمكن أن ترد اعتبارهم بعد أن اصبحوا غير مؤثرين في المجتمع.. ومروراً بقطاعات الشباب والناشئة المتلقين للأفكار الجديدة عبر مختلف المنافذ الموجهة عليهم من الإعلام إلى الجامعة والشارع والنادي ومؤسسات المجتمع المدني.. خلال عقد كامل تم تغيير كل القيم الفكرية لنتحول من إنسانية العدالة الاجتماعية ومفهوم التكافل والتراحم واحترام الإنسان لإنسانيته إلى حيوانية المصالح المادية البحتة المرافقة لنظام السوق المفتوح، ووصم السلوك الإنساني الحميد بالضعف لعدم مناسبته لصفات الإنسان الناجح الذي يجب أن يصعد على حساب الآخرين حتى لو كان الآخرون هم الوطن بأكمله..
ومن هذه الرؤية انطلقت سهام المصطلحات الجديدة المعبرة عن القوة والمادة وشرائع الغابة لتحل محل مصطلحاتنا الأصيلة التي اعتبرت دليلاً على الضعف وتبرير الفشل في عصر لا يعترف بغير النجاح من خلال القوة والنفوذ المادي المتجرد من كل القيم الإنسانية.. وهناك الكثير مما يمكن ذكره بهذا الخصوص من أمثله ودلالات وسلوكيات قد تثير فينا نوعاً من التأمل لما نحن سائرون إليه.. إلا أننا يمكن أن نختصر كل تلك الأمثلة في واحدة أساسية تعطينا دلالات كافية عن مدى نجاح تلك الهجمة الشرسة على قيمنا الفكرية والثقافية والإنسانية، إذ عندما تصل السهام القاتلة إلى زعزعة ثوابتنا الوطنية واعتبار مفهوم الثوابت بحد ذاته دليلاً على التخلف والجمود، فإننا يمكن أن نعتبر هذا الغزو الثقافي قد حقق نجاحاً كبيراً وإلى حدود غير آمنة.. وهذا بالضبط ما تم تحقيقه من خلال حرب المصطلحات وما يتردد ويتناقل حول عدم وجود الثوابت وعدم جدواها، وعدم واقعية الثوابت الفكرية أو السياسية وحتى الجغرافية، وعدم موضوعية الثوابت الوطنية أو ثوابت الاستقلال أو السيادة أو الثوابت القومية، وهكذا فجأة أصبح كل شيء متغيراً ومتحركاً حسب تلك المفاهيم الجديدة، لا بل حتى الحديث في الثوابت كمصطلح لم يعد مسموحاً به، فالثابت مفهوم متخلف بموجب ما يراد تنفيذه من تغيير في المنطقة.. فأصبح من السهل الحديث عن تجزئة الأوطان والتنازل عن الأرض وتغيير الهوية.. هكذا يتم قطع جذورنا من أعماق أرضنا وأوطاننا وحضاراتنا العريقة لنصبح مسوخاً لا هوية لنا ولا موقع ولا مستقبل على هذه الأرض، بينما هم لم يغيروا في ثوابتهم فيما يتعلق بسياساتهم الوطنية والاستعمارية عبر القرون.. فيا ترى كم من الوقت تحتاجه هذه الأمة لتهب مستيقظة قبل أن تصبح خارج التاريخ؟!!
© جمعية التجمع القومي الديمقراطي 2023. Design and developed by Hami Multimedia.