ليس هناك في هذه الأيام العابسة ما يبعث على شيء من الضحك، مثل تلك الأقوال التي يطلقها بعض قادة العالم الجديد، عالم “الحرية” وتبادل السلطة عندما يسخرون من تشبث حكام العالم الثالث بكراسي الحكم وقتالهم عنها، ويتناسون أنهم لا يختلفون كثيراً عن أولئك الحكام، فهم يبذلون أقصى ما في استطاعتهم للوصول إلى هذه الكراسي، ولا يترددون في إراقة ماء وجوههم، كما لا يترددون في أن يخونوا ضمائرهم للوصول إلى تلك الكراسي، ويتمنون لو استطاعوا البقاء عليها إلى الأبد .
الدليل على ما نذهب إليه واضح ومكشوف على سبيل المثال لا الحصر في موقف أوباما رئيس الولايات المتحدة الذي تغيرت مواقفه مع اقتراب مرحلة الانتخابات 081 درجة عما كانت عليه قبل عامين، وذلك في سبيل الاحتفاظ بكرسي الرئاسة لفترة ثانية، وبدا على استعداد لأن يبيع كل شيء من أجل هذا الهدف الشخصي الذي يبدو أنه لن يتحقق، فاتجاه الريح يؤكد أنه لن يكسب الجولة لسبب وحيد هو تماديه في الاستسلام والركوع لقوى انتخبته أغلبية الشعب الأمريكي بإجماع منقطع النظير، لكي يقف في مواجهتها، ويعمل على إضعاف نفوذها، لكنه تنكّر لهذه الأغلبية، وذهب يبحث عن التأييد عند الأعداء وعند اللوبي الصهيوني خاصة، بعد أن أدرك أنه خسر الشعب الذي أوصله إلى الكرسي الدوار في البيت الأبيض، وهو بمواقفه المترددة وانحيازه إلى هذه القوى، لن يخسر الانتخابات فقط، بل الصورة التي كانت قد رُسمت له في بداية ظهوره .
لقد كان أوباما وهو يتحدث منذ أيام عن القضية الفلسطينية في الجمعية العامة للأمم المتحدة، إنساناً آخر، وبدا متماهياً مع المواقف الصهيونية أكثر من قادة الكيان الصهيوني أنفسهم، وبالغ في استرضاء اللوبي الصهيوني وفي الدفاع عن وجهة النظر الصهيونية، ونسي أو تناسى في غمرة تلك الحماسة كلّ ما كان قد قاله أو وعد به في خطاباته السابقة . وفي تعليق لأحد القادة الفلسطينيين على هذا التذبذب الأوبامي، ما يثبت أنه فاق أسلافه من المتحيزين للكيان الصهيوني بعد أن صدرت عنه منذ فترة قصيرة عبارات وإشارات لم يكن يجرؤ على أن يقولها رئيس أمريكي بمن فيهم أسوأهم جميعاً جورج بوش الابن، وهي نهاية لم يكن في مقدور أحد أن يتوقعها لرئيس حظي بإعجاب العالم والعرب في المقدمة . وما كان لمثله أن يخسر ذلك الإعجاب بحثاً عن كسب دورة ثانية في البيت الأبيض مهما أحاط بها من بريق زائف ومظاهر خادعة .
حقاً، إن كراسي الحكم تفسد كثيراً من القادة لاسيما أولئك الذين يرون أنفسهم غير جديرين بها ويسعون إلى البقاء عليها أطول فترة ممكنة، لا لشيء إلا لكونها تعوض النقص الذي يشعرون به، وتأكيداً لإحساسهم أن الكرسي وحده هو مصدر وجودهم، وأن افتقادهم له يعيدهم إلى أحجامهم الطبيعية التي لا تساوي شيئاً بالمقاييس العلمية والأخلاقية، والقلة القليلة فقط من القادة هي تلك التي ترى نفسها أكبر من أي كرسي . ولا أخفي أنني كنت واحداً من المخدوعين بالرئيس الأمريكي باراك أوباما، فقد كان ظهوره على المسرح الدولي يوهم بأن لديه من المؤهلات ما يجعله مختلفاً عن أسلافه من الرؤساء الأمريكان، لا لأن بشرته داكنة، وإنما لأنه أعطى في البداية صورة عن إنسان وليس عن رئيس صاحب مشروع على مستوى الولايات المتحدة والعالم .
والسؤال هو: هل استطاب أوباما العيش في البيت الأبيض وأدرك أن عليه أن يحافظ على هذه المصادفة الجميلة التي أوصلته إلى ذلك البيت من خلاله بقائه دورة ثانية ولو على حساب القيم والضمير والمبادئ التي أعلنها قبل وبعد دخوله البيت الأبيض؟