بمجرد أن وطئت قدماه أرض فلسطين المحتلة، أعلن الرئيس الأمريكي جوج بوش «ان إسرائيل لها الحق في أن تكون دولة لليهود« وقد كرر الموقف نفسه في كل محطات جولته الأخيرة في المنطقة، وكان قد سبق له أن أكد أمام العرب المشاركين في اجتماع «أنابوليس« اعترافه «بإسرائيل« وطناً قومياً للشعب اليهودي وتوالي هذه المواقف والتأكيدات من جانب بوش يؤكد انسجام هذا «الرئيس الصهيوني« مع نفسه ومع كل الفِكَر والطروحات التي تؤمن بها «الصهيونية« كحركة عنصرية، فهذا الرئيس ينتمي إلى زمرة «المحافظين الجدد« أو «المسيحيين الصهاينة« المهووسين بأفكار الصهيونية المتخلقة التي تعتقد أن وجود «دولة إسرائيل اليهودية« يمثل مقدمة لمجيء السيد المسيح (عليه السلام).
ولأننا نؤمن بعروبة فلسطين، وبحق العرب التاريخي فيها، وبالبعد القومي لقضية فلسطين، وبكونها قضية عادلة، نرى من الواجب إبقاء الذاكرة والوجدان العربيين بعيدين عن أي تشويش أو تشويه، ورفض أي محاولة لفرض قبول الأمر الواقع علينا، وإرغامنا على التعامل «بواقعية انهزامية« مع «منطق العدوانية« الذي يؤمن به بوش وقادة العدو الصهيوني، وما يحققه هذا المنطق من أهداف وما يفرضه من وقائع على الأرض بالحروب والقتل والتشريد والحصار للشعب العربي الفلسطيني صاحب الأرض الحقيقي. إن الذاكرة العربية المتصلة بالصراع العربي – الصهيوني ومعطياته وأهدافه بوصفه صراع وجود وليس صراعاً على الحدود، إن هذه الذاكرة هي مستهدفة في الخطاب السياسي الأمريكي الصهيوني من خلال الإصرار على ترويج فكرة «الأمة – الدولة« أي الدولة القائمة على القومية اليهودية وهي العنوان للمشروع الصهيوني الذي يهدف إلى جمع اليهود في دولة خاصة بهم على أرض فلسطين. لذلك ومن أجل بقاء الذاكرة العربية متيقظة ومتقدة في مواجهة هذا المشروع نجد من الضروري استعادة التاريخ في هذه القضية للوقوف على طبيعة الأسلحة الفكرية والسياسية التي يحاول العدو توظيفها لخدمة مشروعه وأهدافه، ونحن نعود إلى التاريخ لسنا بحاجة إلى اختراع «روايات« أو ابتكار «أساطير« كما يفعل العدو، فالتاريخ والحقيقة يقولان ان اليهود ليسوا قومية، بل ديانة تسرب منها كثير من أتباعها عبر الزمن، كذلك اليهود ليسوا عرقاً أو سلالة، بل هم أخلاط عرقية ورثت منظومة من القيم الثقافية الناتجة عن دورهم التاريخي كجماعة وظيفية مارست التجارة والحرف في المدن واختصت في التعامل في الربا والضرائب لمصلحة الإقطاعيين بدلاً من الزراعة والجندية والخدمة العامة. والتاريخ يقول : إن فلسطين هي جزء من الأرض العربية، وشعبها جزء من الأمة العربية، والتاريخ الاجتماعي يقول : إن الأمة (أي أمة) هي «مجتمع ذو حضارة متميزة، وشعب معين مستقر على أرض خاصة مشتركة تكون نتيجة تطور تاريخي مشترك« والأمة (أي أمة) كما تتميز بوحدة العلاقة القومية لا تتشابه ولا تتعارض أو تتناقض مع الأمة كما تتميز بوحدة العلاقة الدينية، بمعنى أن وجود «الأمة العربية« كهوية قومية لا تتناقض مع انتمائها إلى «الإسلام« كعقيدة دينية، وهكذا الأمر بالنسبة إلى أمم مثل الأمة الإيرانية أو الأمة التركية أو غيرهما، وذات الأمر ينطبق على الأمم الغربية مثل الأمة الانجليزية، والأمتين الألمانية والإيطالية، فكل هذه الأمم تؤمن بالعقيدة المسيحية من دون أن يتعارض ذلك مع انتمائها القومي، فكلا الانتماءين قائم ولكل منهما مضمونه المختلف والمغاير عن الآخر كما يشرح ذلك الدكتور عصمت سيف الدولة في كتابه «عن العروبة والإسلام« الذي عالج فيه هذه المسألة برؤية فيها الكثير من العمق والإبداع.
وانطلاقاً من إيماننا بهذه الرؤية نحن نقول ونصر على أن فلسطين عربية وشعبها هو شعب عربي (مسلماً كان أو مسيحياً) فأرض فلسطين العربية تستوعب كل أصحاب الديانات من سكانها من دون أي تفرقة أو عنصرية، واستناداً إلى هذه الحقيقة لا يمكن لعقولنا أن تقبل الطروحات والأفكار التي تجعل للانتماء الديني والانتماء القومي مضموناً واحداً، أو التي تقول: انه يمكن أن يكون لكل دين أرض أو لكل أرض دين، كما يزعم بذلك الصهاينة والقوى الاستعمارية التي ساندت هذه الأباطيل والمزاعم الكاذبة، التي من رحمها ولد «وعد بلفور« المشئوم الذي قدم فلسطين العربية هدية للصهيونية بوصفها وطناً قومياً لليهود. وفي سبيل تحقيق هذا «الوعد الإجرامي« لجأت إلى كل الوسائل الإجرامية واختلقت القصص والروايات الكاذبة، مثل أكذوبة «أرض الميعاد« و«شعب الله المختار« من أجل دفع كل شتات اليهود في العالم للرحيل إلى فلسطين والاستيطان فيها بعد طرد أهلها الحقيقيين. من هنا نحن نفهم إصرار «قادة الصهاينة« وحلفائها من قوى الاستعمار على وجود «دولة خالصة« ونقية لليهود، فهذا التوجه ينسجم مع هدف استكمال المشروع الصهيوني في السيطرة على فلسطين وترحيل عرب فلسطين المحتلة عام 48 (مليون ونصف المليون) للحفاظ على نقاء الدولة اليهودية إضافة إلى التخلص بصورة نهائية من قضية «عودة اللاجئين« الذين هجروا من ديارهم أمام المذابح الصهيونية والذين يصرون على حقهم في العودة والذين تلح الولايات المتحدة الأمريكية ورئيسها بوش على تعويضهم بدلاً من عودتهم، فقد كانت هذه المسائل تمثل أهم الأسباب التي دفعت بالرئيس بوش لجر العرب في أنابوليس وتأكيد موقفه حول «دولة إسرائيل اليهودية« ولا أظن أنه غائب عن ذهن العرب أن الخضوع لمنطق بوش والاعتراف بالصفة اليهودية لإسرائيل يعنيان في حقيقة الأمر مشاركتهم في تصفية القضية الفلسطينية والمساعدة على استكمال المشروع الصهيوني. لذا ينتاب المرء شعور بالقلق من قبول بعض العرب «بمنطق الصهاينة« وأن يقوم هذا البعض – واعياً أو غافلاً – بترويج مزاعمها وأكاذيبها حول «وحدة« أو «تطابق« الانتماء القومي مع الانتماء الديني بعد كل الكوارث التي حلت بفلسطين وبعد كل ما تعرضت له الأمة العربية من عدوان وحروب استعمارية شنت عليها من دون وجه حق، لتجزئة أقطارها ثم تقسيم هذه الأقطار على أسس طائفية وعرقية تحت ذات الذرائع والفِكَر الباطلة التي تخدم المشروع الصهيوني – الأمريكي في المنطقة.
إن حاضرنا بكل مرارته والتاريخ بكل قسوته شاهدان على حجم التآمر الواقع على أمتنا، وإن الخطاب الصهيوني وآلته الإعلامية والدعائية هما السلاح الذي تريد به الصهيونية اغتيال عقولنا وتخريب وعينا الوطني والقومي، لذلك فإن الرد المناسب والواجب لمواجهة هذا التآمر وأسلحته المتنوعة يكمن في إبقاء الذاكرة العربية حية وتحصينها عبر استنهاض كل القيم والمبادئ واستدعاء كل حقائق التاريخ، ولعله من المفيد في هذا الإطار العودة مجدداً إلى كتاب الدكتور عصمت سيف الدولة «عن العروبة والإسلام« الذي نوهنا به في سياق موضوعنا هذا فيما تقدم من حديث فسوف نجد المؤلف يأخذ بيدنا إلى حيث يجب أن نكون وإلى حيث الوعي بالفكر الذي يعطي الانتماء القومي بعداً حضارياً ويلغي كل صيغة من صيغ التعصب والعنصرية والاستعلاء، انه يدعونا إلى عودة واعية للتاريخ واستخلاص العبر والدروس للنهوض بمشروعنا القومي الحضاري والإنساني الذي يتعارض كلياً مع المشروع الصهيوني – الأمريكي العنصري الاستعماري، إنه يرشدنا إلى الطريق الذي يقوي نضالنا ويحصن ثقافتنا من أجل حماية الأمة من غائلة الأيام وعدوان المعتدين، في هذا الصدد يقول د. عصمت سيف الدولة : مرتان في هذا التاريخ قامت الحروب ضد المنطقة العربية وكان سندها منطق يروج إلى أن للانتماء الديني والانتماء القومي مضموناً واحداً وكان العرب هم الضحايا في المرتين، في المرة الأولى عندما قامت الحروب الصليبية (1096 -1192م) في هذه الحروب وحد المعتدون بين مضمون الانتماء إلى المسيحية ومضمون الانتماء إلى أرض فلسطين، على هذا المنطق الاستعماري شنت علينا تلك الحروب التي أساسها (استعمار – اقتصادي) وليست لها علاقة بالدين المسيحي البتة بل ان الذي حصل هو استغلال الدين واستخدامه كغطاء لشن هذه الحروب ومن أجل خداع الشعوب الأوروبية لتقدم أبناءها ضحايا على مذابح أطماع الأمراء الإقطاعيين، فالحرب قد بدأت على امتداد الأرض الأوروبية بين أمراء الإقطاع، كل يريد أن يزيد مساحة إقطاعيته فقال لهم (البابا) ان الأرض التي تقيمون وتتقاتلون عليها لا تكاد تنتج ما يكفي، فانطلقوا إلى الأماكن المقدسة، وهناك ستكون ممالك الشرق جميعها بين أيديكم فاقتسموها فقد كانت الكنيسة التي يرأسها البابا على علاقة بالأرض التي ضربها القتال بين الأمراء الاقطاعيين، فقد كانت شريكة في ريعها لذلك روجت لمقولة ان نشأة المسيحية في فلسطين تعني أن ملكيتها تعود إلى المسيحيين، فعليهم استعادتها من «الغزاة المسلمين« بمثل هذه الذرائع والأكاذيب شنت علينا الحروب وذهب ضحيتها آلاف من البشر، ولم تتوقف تلك الحروب إلا بعد أن استطاع العرب (مسلمين ومسيحيين) أن يهزموا المعتدين ويوصلوهم إلى قناعة بأنه لا جدوى من الخلط بين الانتماء إلى «العقيدة« والانتماء إلى «الأرض« لأن ذلك من قبيل الاعتداء على الحق والافتراء على المنطق والتاريخ، وهكذا استطاع العرب تحرير أرضهم العربية وهزيمة المعتدين وأفكارهم الباطلة التي كانت تنادي بوحدة الانتماء الديني والانتماء القومي.
في المرة الثانية تكررت المزاعم نفسها حينما أراد اليهود في أوروبا الخروج من عزلتهم وساعدتهم الرأسمالية في أوروبا التي أرادت أن تجعل منهم عازلاً بشرياً يحول دون وحدة الأمة العربية ويكون حارساً لمصالحها الامبريالية ومن أجل ذلك ابتدعوا ما عرف (بالفكرة الصهيونية) وهي الفكرة العنصرية المتخلفة التي تقول ان كل من توحدوا ديناً لهم الحق في أن يتوحدوا وطناً ودولة، ولما كان لابد لكل دولة أرض (وطن) فقد اختار الرأسماليون الأوروبيون والصهاينة من اليهود أرض فلسطين اختياراً (صليبياً) وقالوا ان نشأة اليهودية في فلسطين تعني عندهم ملكيتها لليهود الذين عليهم استعادتها من «الغزاة العرب« وهكذا وحد المعتدون (الصهاينة) بين مضمون الانتماء إلى اليهودية ومضمون الانتماء إلى أرض فلسطين وبدأ الصراع العربي – الصهيوني، ولايزال مستمراً وسوف يستمر حتى يتمكن العرب من هزيمة هؤلاء الصهاينة المحتلين بكل ما يملكون من سلاح، ليفيقوا من أوهامهم العنصرية ويقتنعوا بأنه لا جدوى من الخلط بين الانتماء إلى العقيدة (اليهودية) وبين الانتماء إلى الأرض، عند ذلك فقط يمكن أن تتحرر الأرض العربية وتعود إلى أهلها الشرعيين وبعد أن يغادرها كل شتات اليهود الذين قدموا من مختلف بقاع العالم مدفوعين بخداع الصهيونية وضغوط وإغراءات الوكالة اليهودية المختصة بنقل اليهود من دولهم الأصلية إلى أرض فلسطين ليستوطنوا فيها ويشردوا شعبها. ومع بقاء واستمرار هذا الصراع علينا نحن العرب الإصرار والدفاع عن عروبة فلسطين، ويجب ألا نسمح بسرقة عقولنا كما سرقت أرضنا وأن تبقى الذاكرة والوجدان العربيان بعيدين عن كل محاولات التشويه والتخريب تحت مزاعم «السلام« والتطبيع مع هذا الكيان الغاصب أو إزالة كل ما يتصل بالصراع العربي الصهيوني من وقائع وحقائق ومعطيات، فهذه أهداف يعمل الصهاينة وحلفاؤهم الأمريكان على تحقيقها بكل السبل في هذه الظروف التي يتسم فيها الواقع العربي بالضعف والتمزق وخضوع كل الأنظمة العربية واستسلامها أمام عدوانية العدو الصهيوني وسطوة الولايات المتحدة الأمريكية التي أصبحت اليوم الصهيونية جزءا من ثقافتها وبنية مؤسساتها الحاكمة ومسيطرة على فكر وعقل قادتها.
نشر في : أخبار الخليج