علي جرادات
في ثمانينات القرن الماضي قال رئيس أركان جيش الكيان الصهيوني، رفائيل إيتان، في تعليقه على حرب العراق وإيران: "العراقيون يستمتعون بقتل الإيرانيين، والإيرانيون يستمتعون بقتل العراقيين، ونحن نستمتع باستمتاعهما"، بعد إنجاز "اتفاق الإطار" حول "النووي الإيراني" بين إيران والدول الست الكبرى قال الرئيس الأمريكي، أوباما:"أنا ونتنياهو مختلفان حول سبل حل ملف النووي الإيراني . . .أنا مع الحل الدبلوماسي" (أي أن "إسرائيل" مع الحل بالحرب، ما يذكِّر باحتلال العراق وقصف المفاعليْن النووييْن العراقي والسوري) . في تصريح آخر يقول أوباما: "أطمئن أصدقاءنا في الدول العربية السُّنية" والتوصيف هنا، (برأيي) ليس عفوياً، وليس زلة لسان، ناهيك أنه توصيف دارج في الخطاب السياسي والأمني والإعلامي الصهيوني . الإشارات السريعة السابقة تعني: بالرغم من أن ثمة عوامل داخلية، وأي يكن دورها نسبة للعوامل الخارجية في حالة الفوضى والإرهاب والفتن الطائفية والمذهبية والسياسية التي تعصف بالمنطقة، وبقلبها الوطن العربي، أساساً، فإن للولايات المتحدة وربيبتها "إسرائيل" الدور الأساسي، والمصلحة الأولى، في خلق هذه الحالة وتداعياتها . لماذا، وكيف؟
على وقع منعرجات تفكُّك الدولة العربية القُطْرية يتبلور نظام إقليمي جديد يستثني، بدرجة كبيرة، دور العرب، ويُغيِّبُ، لأمد يطول أو يقصر، قضاياهم، وبالذات قضية فلسطين التي لم تعد "نكبة العرب" الوحيدة، بعدما أُضيف لها "نكبات" جديدة في العراق وسوريا وليبيا واليمن، كبلدان "تغزوها" وتعيث فيها فساداً الطوائف والمذاهب التكفيرية الإرهابية، النتيجة الطبيعية لتطبيقات نظرية "الفوضى الخلاقة" بدءاً بالعراق . ما يضعنا بعد عقود على استقلال الأقطار العربية، ونحو 70 عاماً من الصراع مع الكيان الصهيوني، أمام ميزان قوى إقليمي جديد يخدم أول ما يخدم أحلام هذا الكيان وأهدافه ومخططاته تجاه الأرض اللاجئين، أي ضرب على طرق تصفية الهدف الأساسي للنضال الوطني الفلسطيني: استعادة الأرض وعودة اللاجئين إليها، وذلك من خلال:
1- التهام ما تبقى خارج قبضة الكيان من أرض فلسطين في الضفة والقدس والمثلث والجليل والنقب، وحشر قطاع غزة بين خيارين: إما استمرار حصاره، وشن العدوان تلو العدوان عليه، أو رفع الحصار عنه وإعادة إعماره وبناء مطاره ومينائه، مقابل أن يُسمى دولة مجردة من السلاح، أو مقابل "هدنة طويلة الأمد" يتزايد الحديث عنها في الآونة الأخيرة . ما يذكِّر، (إنما في واقع الانقسام الفلسطيني المدمر)، بأطروحة "غزة أولاً"، كحيلة ألبسها "أوسلو" حلة "غزة وأريحا أولاً"، لكن الهدف ظل فرض "غزة أولاً وأخيراً" وفصل غزة عن الضفة وإضعاف دورها ما أمكن، ولأمد يطول أو يقصر، في الكفاح الوطني لانتزاع مجمل مكونات البرنامج الوطني: العودة والدولة وتقرير المصير . ولمن ينسى أو يتناسى يجدر التذكير بمغزى تمنيات "ليت البحر يبتلع غزة"، وبمغزى فك الارتباط أحادياً مع غزة، وبمغزى رفْض وفد "إسرائيل" ل"مفاوضات القاهرة" أثناء العدوان الأخير على القطاع، التعامل مع الوفد الفلسطيني ك"وفد موحد"، أو مناقشة قضايا تخص الضفة والقدس، أو التزحزح عن صلف: إما "تهدئة مقابل تهدئة" أو "رفع الحصار مقابل تجريد المقاومة من سلاحها" .
2- زعزعة وإعادة تهجير وتشريد اللاجئين الفلسطينيين وتدمير مخيماتهم، خاصة في لبنان وسوريا، حيث يقطن فيهما، وفي الأردن، الأغلبية الساحقة من هؤلاء اللاجئين . أما النتائج فحدث ولا حرج . فما مصائب القتل والتهجير والتشريد التي لحقت بالفلسطينيين في العراق بعد احتلاله، وتدمير مخيم نهر البارد في لبنان، وتدمير مخيم اليرموك في سوريا، وتهجير أهله، وموت المئات منهم قتلاً أو جوعاً وعطشاً، إلا تأكيد على ما يقدمه ميزان القوى الجديد آنف الذكر لمصلحة الكيان الصهيوني وأحلامه في التخلص من كابوسه الأساسي وجرحه المفتوح: حق اللاجئين في العودة إلى ديارهم الأصلية، من خلال إعادة تشريدهم، وإعادة تشتيت ما أمكن منهم، (وهم نصف الشعب الفلسطيني ويزيد)، من مخيماتهم في أربعة أرجاء المعمورة، بكل ما يترتب عليه ذلك من نتائج، لعل أهمها: تقليل فرص تجديد الثورة في أوساطهم، وتسهيل طريق محاولات توطينهم، كمحاولات لم تنقطع، ولن تنقطع، وخلق ظروف ومناخات اشغالهم في البحث عن النجاة وتأمين المتطلبات الأولى للبقاء على قيد الحياة، وتصوير كأنهم عنصر عنف وعدم استقرار، بل و"إرهاب"، في الدول العربية، ماذا يعني كل الكلام أعلاه؟
إن الكيان الصهيوني ضالع في مخطط تفكيك الدولة العربية القُطرية، ومتورط من الرأس حتى أخمص القدم فيما ترتكبه عصابات التكفير الإرهابية من جرائم وفظاعات منقطعة النظير . ولمَ لا؟ طالما أن هذا الكيان لا يزال، بعد نحو 70 عاماً على إنشائه، مثقلاً بفائض العدوان والتوسع والتطرف، مجتمعياً، سياسياً، عسكرياً، أمنياً، ونخباً وناخبين . ونتائج انتخاباته الأخيرة مجرد تأكيد جديد على أنه، بنية ونظاماً، في غير وارد مغادرة سياسة شن الحروب وإدارة الظهر للتسويات السياسية ولقرارات الأمم المتحدة المتعلقة بحقوق الشعب الفلسطيني في "العودة والدولة وتقرير المصير" . وطالما أن هدف العصابات الإرهابية في إقامة الطوائف والمذاهب، إن هو، بلا تجنٍ أو مبالغة، إلا وجه ثانٍ لعملة "إسرائيل" "دولة لليهود"، وتبرير إضافي لها . وطالما أن العصابات الإرهابية تخدم، بل هي أدوات، تنفيذ أهداف الولايات المتحدة من وراء نشر "الفوضى الخلاقة" في الوطن العربي، ومنها بلا شك أو ريب، الحفاظ على تفوق "إسرائيل" بالمعنى الشامل للكلمة على ما عداها من دول المنطقة وقواها .
إزاء الحقائق أعلاه حول ضلوع الكيان الصهيوني وتورطه في تفكيك الدولة العربية القُطرية، خدمة لمخططه تجاه محور الصراع، الأرض، وجوهره، اللاجئين، يصبح لزاماً على النخب القيادية الفلسطينية إنهاء انقساماتها المدمرة، واستعادة خيار "الوحدة والمقاومة، وتوحيد الجهود والطاقات والإمكانات الوطنية، وتركيزها بتخطيط سليم على حلقة حماية الأرض وتعزيز صمود الشعب، واللاجئين منهم بالذات، كحلقة مركزية في محطة مفصلية وقاسية من محطات مرحلة تحرر وطني لم تُنجز مهامها بعد، بل ومن دون إنجاز حدها الأدنى خرط القتاد .