عبدالحسن بوحسين
يعتقد كل طرف وقف أمام منصة هي أشبه بمنصة استجواب في مجلس حقوق الإنسان بأنه حقق انتصاراً على غريمه سيمنح الوطن نمواً واستقراراً، متناسين أن أي وهم بالانتصار من قبل أي طرف إنما هو تكريس لواقع مريض يدمي جسد الوطن.
يستعرض هذا المقال بعض الأسباب الرئيسية التي أوصلت قضية محلية كانت دوماً أشبه بقضية عائلية إلى محافل دولية مقدّرٌ لها أن تغدو أكثر تعقيداً لتوصلنا إلى حقبة تاريخية مناقضة لحالة التعايش التي أسس لها الآباء والأجداد، وتفرض علينا نمط حياة مختلفة ليست أفضل من سابقاتها. فما هي الأسباب لهذه الانعطافة الخطيرة في علاقاتنا الداخلية؟ وهل هذا التحول السلبي هو ما نطمح إليه ونبتغيه؟
السبب الأول هو فشلنا جميعاً في اقتناص فرصة الإصلاح التي توفرت لنا قبل عشر سنوات لبناء مجتمع العدالة والمساءلة ودولة القانون التي تتسع للجميع. فقد فشلنا في تفعيل نصوص جميلة في ميثاقنا الوطني وأخرى في دستورنا المعدّل وأطلقنا العنان لنزعات الاستئثار والتمترس حول الفئة والمذهب، وهي العناوين الجديدة البارزة التي نظمنا شئوننا في إطارها.
السبب الثاني هو تسخير المال والتباين المذهبي كمحفزات ومغريات لتقويض الانتماء الوطني والاستعاضة عنه بانتماءات ضيقة عقيمة. فاختفت من قاموسنا معايير الجدارة وتحوّلت حقوق المواطنة إلى غنائم تمنح وفقاً للمعايير المعكوسة الجديدة. ولعب الاستثمار في المادة الإعلامية بما فيها المنابر ودور العبادة دوراً في تعزيز التباين بين مكونات المجتمع.
السبب الثالث هو سخريتنا من منهج الحوار الذي تحول إلى مادة دعائية في سوق مزادنا السياسي، فالجميع يردد حواراً حول قواسم مشتركة ولكن البعض يتمسك بالقواسم وينبذ المشتركة لكون نشوة النصر التي تملكته لم تترك في عقله فسحة لمواطنة متكافئة.
السبب الرابع هو اعتبار أعراض المرض سبباً، وغض الطرف عن المسببات الحقيقية وذلك في محاولة للهروب إلى الخلف. وهذا الخطأ في التشخيص دفع البعض إلى زيادة جرعات مسبباته لتبرير سياسات تضمنتها تقارير معيبة لإعادة رسم خارطة الوطن من جميع جوانبها. فترك هذا البعض أصل المعضلة وأصبح مشغولاً بلغز البيضة والدجاجة، مستنسخاً بذلك أدوات علاجية مكرّرة وخاطئة كانت في الأصل سبباً في تحويل مشاكلنا إلى معضلة بصفة تراكمية.
السبب الخامس هو اعتماد أسلوب كسر العظم من جانب، تقابله بعض من ردود أفعال متشنجة من جانب آخر، تساهم جميعها في قطع شعرة معاوية وتجعل من ارتفاع الخسائر عاملاً مقوّضاً لصوت العقل ولكل جهد وطني يبذل لتضميد الجراح.
السبب السادس هو إخفاقنا جميعاً في تحليل عوامل الربح والخسارة، وفي القراءة السليمة والمتأنية لخارطة المشاريع الإقليمية والدولية وخصوصاً بعد انحسار دور الأنظمة التقليدية وبروز الإسلام السياسي بمباركة غربية. هذا الإخفاق هو الذي حملنا للانغماس كثيراً في دهاليز الاستقطابات الدولية من دون الالتفات إلى مزايا الاعتدال والمحافظة على خطوط للعودة.
في هذا الوضع، ذهبت الأطراف المتخاصمة إلى جنيف حيث بات الوطن مكشوفاً بعد انحسار صورته النمطية التي بنيناها له على مر السنين. من هنا فإن المرء لا يحتاج إلى ذكاء خارق للتعرف على حصيلة ما جرى في جنيف والتي يمكن إيجازها فيما يلي:
– أن التقرير الرسمي المقدم إلى مجلس حقوق الإنسان وافق على تنفيذ أكثر من 80 في المئة من التوصيات الأممية ما حمل المجلس على قبوله باعتباره خطوةً إيجابيةً يمكن البناء عليها لمعالجة قضايا حقوقية قد تفتح الطريق لحلحلة قضايا سياسية مزمنة.
– أن قبول التقرير الرسمي بكل إيجابياته جاء حصيلة جهد رسمي وأهلي مشترك كان بالأحرى تحقيقه في حوار وطني داخلي. والمفارقة هنا تكمن في ادعاء كل طرف بتحقيق نصر على الطرف الآخر في قضايا اتفق الطرفان واعترفا بضرورة معالجتها.
– يعتبر التقرير الرسمي خطوة شجاعة لكونه يمثل اعترافاً ضمنياً بتجاوزات مخالفة لقوانين دولية التزمنا باحترامها.
– أن قبول التقرير الرسمي وضع التزامات على الطرف الحكومي شملت توصيات بسيوني التي أصبحت جزءاً ملحقاً لتوصيات مجلس حقوق الإنسان. وطريقة التعامل مع هذه الالتزامات لا يمكن أن تتم بأسلوب الانحناء المؤقت للعاصفة الذي دأبت الجهة الرسمية على اتباعه كتكتيك مؤقت في الداخل، فالطرف المقابل هذه المرة لم يعد طرفاً محلياً فقط.
– إن النصائح والانتقادات الموجهة لممارسات الجهة الرسمية في جنيف إنّما صدرت من حلفاء مؤثرين في مجرى الأمور على الساحة الدولية، وهم يشعرون بإحراجٍ شديدٍ لتجاوزات غير مبررة لأصدقائهم. وهذا يجعل من الوفاء بالتزامات خاضعة لمراقبة ومراجعة دورية أمراً لا مفر منه.
لقد عاد الطرفان من جنيف بنشوة نصرٍ اشتركا في صنعه. ولكي نهدي هذا الانتصار للوطن ونترجم مضمونه إلى واقعٍ عملي، بات حقاً على الجميع الاشتراك في تنفيذه. فالشراكة في إحراز النصر في الخارج إنّما تكتمل بشراكة وطنية تنفذ التزامات النصر في الداخل، وذلك بالجلوس على طاولة حوار وطنية تبدأ بالقواسم المشتركة، فنوفّر على أنفسنا ما نفقده من سمعةٍ ومالٍ وجهدٍ في معركة ندرك سلفاً أن المنتصر فيها خسران.
إن لقاء أهل الدار يمثل صوت الحكمة الذي سار عليه من سبقونا من الآباء والأجداد، فكان عوناً لهم في زمن اليسر والعسر، فهل لنا استحضاره ولو بعد حين؟