د. مثنى عبدالله
باحث سياسي عراقي
بهذه الكلمات المُعبّرة عن حجم المأساة المُستهان بها في العراق الجديد، عبّر فلاح من قرية البو عيثه قضاء الدورة في بغداد، عن غضبه بوجه مجموعة من الامريكان من مايسمى مشاريع أعمار العراق وهم يحاولون منحه بضع مستلزمات زراعية، ثم بَصَقَ في وجوههم بكل جرأة وتحد وأغلق باب الدار. حاولت المجموعة الأمنية العراقية المرافقة الرد عليه، لكن أحدهم نصحهم بأن المنطقة ريفية وأن سكنتها أغلبهم أقارب، والرد عليه يجلب عواقب وخيمة أكثر من الاهانة التي حصلت ثم غادروا المنطقة على عجل. قد تكون الموازنة بين فجيعة فقد الابن والرد على القتلة بالشتيمة من قبل الأب غير متوازنة أطلاقا بالمعايير المادية، لكنها في المعايير المعنوية أكبر من فعل القتل بكثير. أنها دليل على أن ذلك الشيخ الطاعن في السن، البسيط في المؤهلات والوعي السياسي، قد أمتلك أرادته وعندما حضرت اللحظة المناسبة لم يستطع الخوف أن يُلجم غضبه، فعبّر عنه بما يملك حتى لو كانت أداته في التعبير مُجرد كلمات.
نسوق هذا المثال ونحن نستذكر التاسع من نيسان العام 2003 لحظة غزو وأحتلال العراق التي مرت علينا قبل أيام قلائل، لنقارن بين الفعل المقتدر لذلك الشيخ الجليل المُعبّر عن الشعور بالمسؤولية الاخلاقية والشرعية تجاه العائلة التي تمثل وطنه الصغير، وبين الفعل السياسي المخزي واللا أخلاقي تجاه الشعب والوطن الذي عبر عنه ساسة العراق الذين امسكوا بالسلطة طوال السنوات التي تلت الغزو. وإذا كان موقفهم هذا تنطبق عليه كل الصفات الرذيلة، كونه يخالف قوانين الارض والسماء بعد أن تنصلوا من مسؤولياتهم تجاه الرعية، وكانوا سببا رئيسيا في أهدار الدماء وأنتهاك الاعراض ونهب الثروات، فإنه في الحقيقة ليس أكثر من أمتداد طبيعي للدور الخياني الذي لعبه الكثير منهم حتى قبل الشروع بالغزو بسنوات طويلة، حينما قبلوا أن يكونوا مجرد دمى متحركة بخيوط يُمسك أطرافها صانع القرار الامريكي، الذي كان يظهرهم على المسرح الدولي بدلائل مزيفة كلما أراد أن يُطيل من عُمر سنوات الحصار، ليستعرضوا أنجازاتهم الخيانية ووثائقهم المزيفة التي كانوا يدعون أنهم حصلوا عليها من الدوائر السياسية والعسكرية المحيطة بصانع القرار العراقي أنذاك، كي تعطي الادارة الامريكية بعض المصداقية والثقل السياسي لهذه الدمى أثناء تحركهم في دول العالم لإستدرار الاموال والتأيد من جهة، ومن جهة أخرى كي تغطي على فشلها في أختراق التحصينات الامنية التي كانت تتمتع بها المؤسسات العراقية، وكذلك التحصينات النفسية المضادة للاختراقات الاجنبية التي كانت تشكل ركنا أساسيا من تركيبة شخصية الفرد العراقي، نتيجة القيم التربوية والاخلاقية التي عززها العامل الديني والمجتمعي والتي تُدين وتُجرّم الخيانة بكل أشكالها، مما أفقدهم القدرة على أيجاد مصادر معلومات استراتيجية حقيقية يمكنهم الاعتماد عليها في الداخل. وقد بان زيف كل تلك المعلومات في أول محطات الغزو والاحتلال، عندما فشلوا في أيجاد دليل واحد على وجود أسلحة الدمار الشامل . أما دورهم بعد الغزو وأعلان الاحتلال فقد كان دليلا لايقبل الشك على أنهم لم يكونوا أطلاقا معارضة سياسية كما هو متعارف عليها، بل كانوا معارضة لهوية الوطن وكيانه المجتمعي ودوره العربي والاقليمي، حينما قسموا الوطن على أسس طائفية وعرقية ونشروا ثقافة المكونات والمستوطنات الشيعية والسنية والكردية والتركمانية وغيرها. فحيز الحركة بالنسبة للمعارضة السياسية الحقيقية يجب أن ينحصر أساسا في الاختلاف السياسي السلمي مع السلطات القائمة، تجاه البرامج الحكومية الداخلية والخارجية، السياسية والاقتصادية والتربوية والامنية والحريات العامة، وقد يتطور هذا الفعل بأتجاه المعارضة السياسية المسلحة المحدودة ضد النظام القائم، والتي غالبا ما تكون لأغراض الدفاع عن النفس لا أكثر. لكن ذلك لا يعني بأي حال من الاحوال أعطاء الشرعية لاصطفاف المعارضة مع قوى الغزو الخارجي، أو أن تكون أساسا قد جرى تشكيلها وتمويلها وتسليحها بأرادات خارجية وبجهود أجهزة أستخباراتية دولية وأقليمية. عندها ستكون قد فقدت الشرط الاول في المعارضة وهو أمتلاك الارادة السياسية الوطنية المستقلة في الفعل والتحرك،، والذي هو بالاساس تخويل شعبي داخلي وليس خارجيا، والذي كان دافعها الاساسي في الخروج على نظام الحكم القائم.أما المعارضة العراقية التي تتولى السلطة الآن فلقد فشلت أساسا في أمتلاك الارادة الشعبية. لقد أرّخت المعارضة العراقية التي تشكل السلطة الحالية لنفسها تُراثا يُخزي من كان فيها، حينما أرسلت السيارات المفخخة الى الوطن لتقتل الابرياء ولتدمر مؤسسات الدولة التي تخدم المواطن، ولتقتل الدبلوماسيين العراقيين وتهاجم السفارات العراقية في الخارج، وتشكل فرق عصابات مسلحة تدخل من أيران لتقطع الطرق على الجنود البسطاء القادمين من جبهات القتال، كي تسرق رواتبهم وأسلحتهم وتأسرهم كي تسلمهم الى العدو الذي كان في حالة حرب مع الوطن، وعندما دخلت قوات الغزو من الكويت دخلت قوى المعارضة المسلحة من أيران، كي تؤمن ظهير تلك القوات المتقدمة نحو العاصمة وباقي مدن العراق، فكانت تمسك المحافظات التي يدمرها العدو وتبسط سلطاتها عليها لتمارس القتل والتعذيب والنهب والسلب.
أمام هذا التراث الظلالي هل ستبقى علامات الاستغراب بعد الآن قائمة لكل متابع للشأن العراقي، وهو يجد الوطن في حالة تراجع مستمر في كل مناحي الحياة؟ وهل سيحار المرء في تفسير أسباب تقدم الوطن الى أحتلال المراكز الاولى عالميا في الامية والفساد ونهب المال العام وكبت الحريات وعدم صلاحية المدن للعيش البشري؟ أم هل سترتفع علامات التعجب عندما يذهب رئيس الوزراء الى عقر دار دولة الاحتلال كي ينحني ويضع باقات زهور على قبور الجنود الذين غزوا بلده، ويتجشم رئيس الدولة عناء السفر الى بريطانيا الشريك الرئيسي في غزو وأحتلال وطنه وشعبه، كي يقف مع توني بلير مؤبنّا الجنود الغزاة القتلى ومتبرعا بأنشاء نصب تذكاري لهم في بلدهم، بينما يرفض والد جندي قتيل مصافحة بلير قائلا لايشرفني أن أقف معك في نفس القاعة . وعلى خطى رئيس الدولة ورئيس الوزراء ينسج قادة القائمة العراقية الذين صدّعوا رؤوسنا بوطنيتهم، مقالا طويلا في صحيفة نيويورك تايمز يثنون فيه على شجاعة وتضحيات الجنود الامريكان، الذين سطروا جرائم يندى لها جبين الانسانية في سجن أبو غريب وبوكا والفلوجة وحديثة والنجف والموصل وفي كل شبر من أرض العراق، مطالبين الادارة الامريكية تشكيل حكومة وحدة وطنية تضم رفاتهم التي بعثرها شركائهم في العملية السياسية. والغريب في هذا الموقف أن أحد الموقعين على ذلك المقال كان يعمل مديرا لمستشفى قضاء الفلوجة المنكوبة بأحد أكبر جرائم الابادة ألانسانية في التاريخ، وشاهدّ بأم عينه كل فصول الجريمة، لكن المناصب تعمي البصائر والابصار.
لقد بات اليوم زعماء الدول وقادتها السياسيين الوطنيين يتبارون في أستحصال حقوق شعوبهم من مستعمريهم، ويقفون أمام العالم كله مطالبين بالاعتذار والتعويض عن فترات أستعمارية مضى عليها عقود من الزمن، مُعبرين بذلك عن مسؤوليتهم التاريخية والاخلاقية وأحترامهم لإستحقاقات الشعوب والاوطان، بينما يصطف قادة العراق الجديد الى جانب أعداء الامة والوطن، ولانسمع من أيا منهم كلمة واحدة عن حقوق العراق وشعبه في التعويض عن سنوات الحصار والاحتلال، ولا الاعتذارعن غزو ثبت قانونيا أنه كان خدعة كبرى، ولا غرابة في ذلك أطلاقا لأنهم ليسوا سوى أدوات لقوى الغزو والاحتلال تلك .
القدس العربي