الدكتور عبد المجيد الرافعي
إن الأزمة السياسية التي تعصف بلبنان، تتدرج تعقيداتها صعوداً بعد المتغيرات التي شهدتها وتشهدها العديد من الأقطار العربية، وأكثرها تأثيراً على ساحة لبنان، تلك التي تجري في سوريا، سواء بسبب الانخراط العسكري والسياسي لبعض القوى اللبنانية في مجريات الأحداث، أو بسبب الهزات الارتدادية للزلزال السوري على لبنان، وبما جعل من ساحة لبنان ترتبط في إيقاعاتها السياسية واختراقاتها الأمنية بسياقات الصراع في سوريا وعليها.
إن الحدث السوري الذي بات يرخى ظلاله الثقيلة على معطى الوضع اللبناني أضاف عوامل تأزيم إلى ما هو قائم بحيث بات البلد ضمن دائرة خطر داهم مهدد للسلم الأهلي، خاصة وأن الخطاب السياسي المشحون بالمحفزات الطائفية قد ارتفعت نبرته، وأن التوتر الأمني الثابت والمتجول قد ارتفع منسوبه.
إن هذا الواقع المأزوم، والذي تراكمت عوامله على مدى العقود السابقة تتحمل مسؤوليته بالدرجة الأولى، الطبقة السياسية التي تتناوب على الحكم، تارة من موقع الموالاة وتارة من موقع المعارضة، وبما جعل سلوكها يزيد من حدة الشروخات العامودية بين المكونات المجتمعية التي تُعبىء بخطاب سياسي مشدود إلى عصبية طائفية ومذهبية حادتين، نتج عنه تعطيل دورة الحياة السياسية عبر آلياتها الديموقراطية.
إن التمحورات السياسية الكبرى التي تقودها قاطرات سياسية مرتبطة بمحوريات ومرجعيات إقليمية ودولية، أثرت سلباً على آليات التواصل الداخلي باتجاه التفاعل الإيجابي، وحالت دون بلورة رؤية سياسية موحدة خاصة حيال الملفات الكبرى.
هذا الواقع السياسي المأزوم، الذي أثر سلباً على كل جوانب الحياة، وخاصة في أبعادها الاجتماعية والمعيشية والاقتصادية، وسع من مساحة الانكشاف الامني،حيث لم تستطع القوى الأمنية الشرعية أن تضبط التفلت الأمني الذي يعم غالبية المناطق اللبنانية، ومثاله الصارخ الوضع في طرابلس، حيث بات وضعها كالقنبلة الموقوتة التي تهدد بانفجار شامل، إذا ما استمرت جولاتها الأمنية تدمر الحجر وتقتل البشر ودون أن تلوح في الأفق بوادر حل جذري لهذا الاستعصاء الأمني الذي يستبطن صراعاً سياسياً يتجاوز حدود الساحة الداخلية.
أمام هذا الواقع الذي باتت تداعياته السلبية شديدة الخطورة على شرائح شعبية واسعة وعلى الأمن المجتمعي برمته، تبرز الحاجة لتحرك سياسي وشعبي، يتمحور حول شعار إعادة ضبط الإيقاع السياسي ضمن رؤية وطنية شاملة، تكون عابرة للطوائف والمذاهب والمناطق، وتشارك في بلورة ركائزها كل القوى الحريصة على وحدة لبنان أرضاَ شعباً ومؤسسات، وكل القوى التي ترفض الاصطفافات المذهبية أياً كانت تلاوينها السياسية، وتعيد التأكيد على أن السلم الأهلي، المجتمعي والوطني، يجب أن يكون خطاً أحمراً، لا يجوز اختراقه، خاصة وأن اللبنانيين ذاقوا المر من انهيار هذا السلم عندما انطلقت شرارة الأحداث 1975، ولم يتذوقوا حلوه عندما قيل أن الحرب انتهت في لبنان في مطلع التسعينيات.
إننا وفي ضوء هذا الواقع السياسي الذي ينذر بمضاعفات سلبية خطيرة على أمن المواطن والأمن الوطني نرى أن المدخل للخروج من هذا المأزق هو إطلاق حراك سياسي على قاعدة مضمون خطاب وطني جامع يؤكد على الثوابت التالية:
1- التأكد على ما ورد في مقدمة الدستور المقر في 21/9/1990 بكل فقراتها.
2- العمل لتنفيذ ما لم ينفذ حتى الآن من وثيقة الوفاق الوطني التي اكتسبت الصفة الدستورية في 21/9/1990، وخاصة البند (ح) من المقدمة والذي نص على إلغاء الطائفية السياسية واعتبار ذلك أحد الأهداف الوطنية الأساسية التي يجب العمل على تحقيقها وفق خطة مرحلية وهذا يتطلب:
أ- تشكيل الهيئة الوطنية التي يناط بها وضع آلية الإلغاء الطائفية السياسية، نصاً وممارسة.
ب- سن قانون انتخابي خارج القيد الطائفي مع تعديل سن الانتخاب ونظام الدوائر وأن يكون لبنان دائرة انتخابية واحدة، وعلى قاعدة النسبية.
ج ـ توحيد كتاب التاريخ والتربية الوطنية وحتى لا يبقى تاريخ لبنان يقرأ بخلفيات دينية وطائفية ومذهبية.
3- تفعيل دور المجلس الاقتصادي – الاجتماعي وإعطائه دوراً فاعلاً في التخطيط والتنفيذ لسياسة الإنماء الاقتصادي والاجتماعي وبما يتلاءم مع مضمون الفقرة (ز) من مقدمة الدستور.
4- إعادة التوازن إلى السلطات الثلاث، الأولى والثانية والثالثة مع ما يتطلب ذلك من إعطاء صلاحية دستورية أقوى للرئاسة الأولى بما يتعلق برد القوانين والمراسيم ونشرها.
5- توفير التغطية السياسية للقوى الشرعية اللبنانية في مهامها حفظ الأمن الوطني والتشديد على وحدتها باعتبارها تشكل أهم المؤسسات الارتكازية للبنيان الوطني.
من هنا، وفي ضوء الواقع الراهن وحجم الانكشاف الأمني والسياسي والالتحاقات السياسية لقوى داخلية بمحاور خارجية دولية وإقليمية لا نرى الظرف مؤاتٍ، ولا المعطيات متوفرة لتشكيل هيئة تأسيسية، الهدف منها وضع مسودة مشروع دستور جديد وذلك لأسباب كثيرة، أهمها أن الدستور القائم ينطوي على كثير من الإيجابيات، وان العلة ليست بالنص الدستوري بل بالممارسة التي تجاوزت النص والتفت عليه، وسعت إلى تطويعه بما يتلاءم مع الممارسة السياسية وليس العكس.
ولذلك نرى بأن المطلوب في هذه المرحلة ليس وضع ستور جديد، بل استحضار الموقف الذي يشدد على تطبيق أحكام الدستور، وعندها يحكم ما إذا كانت النصوص تلاءم الاصلاحات المطلوبة وطنياً.
وعليه، فإننا لا نؤيد تشكيل هيئة تأسيسية لوضع مشروع دستور جديد، بل ندعو إلى صياغة وثيقة سياسية بمضمون وطني شامل، تؤكد على تنفيذ ما لم ينفذ من وثيقة الوفاق الوطني وعلى تفعيل البنود التي وردت في مقدمة الدستور.
وعلى هذا الأساس نرى بأن يكون التحرك باتجاه عقد مؤتمر وطني عام تلتقى فيه كافة القوى السياسية الوطنية والفعاليات والنقابات والقطاعات المهنية ومؤسسات المجتمع المدني التي انخرطت وتنخرط في حملة إسقاط النظام الطائفي، و بغية تأطير أوسع اصطفاف سياسي وطني وشعبي حول هذه الوثيقة.
إن الانتقال بلبنان من نظام المحاصصة الطائفية إلى لبنان الوطني الديموقراطي، يحتاج إلى قوى تكون مؤمنة بالتغيير وفق الآليات الديموقراطية، وعندها يمكن القول بأن القوى السياسية لحاملة لمشروع التغيير الوطني الديموقراطي هي المعبرة بصدق عن أهداف الحركة الشعبية وتطلعاتها.
نعم لمؤتمر وطني شامل…لا لهيئة تأسيسية..
الدكتور عبد المجيد الرافعي
رئيس حزب طليعة لبنان العربي الاشتراكي
بيروت في 7/6/2013