اسماعيل أبو البندورة
في الندوة التي عقدناها منذ فترة قريبة في رابطة كتاب اربد حول معاني الانتصار في غزة، وشاركت فيها مع الدكتور وليد عبد الحي/ استاذ العلوم السياسية والمستقبليات، استغربت كما استغرب غيري من الحضور الاحتمال الذي ذكره الدكتور عبد الحي بعد تحليل عميق من امكانية اندلاع صراعات فلسطينية داخلية بين غزة ورام الله تضعف القضية الفلسطينية وتبدد أي انجاز تحققه المقاومة الفلسطينية، بعد أن ذكر الدكتور أن منطق الأمور يدفعه الى تشاؤم العقل و استبعاد تفاؤل الارادة، وكنت على الضد منه قد أقمت مداخلتي على تفاؤل الارادة وامكانية البناء على أي انجاز فلسطيني مقاوم، وعن قدرة الشعب الفلسطيني على انتاج معاني جديدة في الصمود والمقاومة ومواجهة العدو الغاصب.
جاء الاستغراب بعد اعلان المصالحة الفلسطينية والتفاؤل الشعبي الذي انبنى عليها، وما قدمه انتصار غزة من معاني وأثاره من قدرة على الصمود والمقاومة، ووقفة الشعب الفلسطيني دفاعا عن الأقصى التي قد تدفع بالنضال الفلسطيني الى الأمام.الا أن ما حدث لاحقا جاء ليؤكد الى حد ما افتراضات الدكتور عبد الحي الذي يقرأ الأحداث قراءة تنبؤية مختلفة قد تثير الاستغراب لكنها تجري في مستقر لها.
وكنا قد استبشرنا خيرا بعد سنوات عجاف من الصمت والاصطراع والعبث بأن المصالحة الفلسطينية حتى بطابعها الرسمي والشكلاني قد تسفر عن توحيد الجهد الفلسطيني في أتون واحد، وقد ترفع من معنويات الشعب الفلسطيني التي انهارت من جراء الاختلاف والتصارع الداخلي، كما استبشرنا بانتفاضة جديدة قادمة بدأت نذرها تلوح في الأفق، بعد أن صمدت غزة من وقت قريب صمود الأبطال، وبعد أن رابط أهل فلسطين بشجاعة في القدس دفاعا عن فلسطين ومعناها، وعن الأقصى، وبعد تلك الاغارات الفردية الشجاعة على المستوطنين في الخليل والقدس التي ترسم الملامح والخطط الأولى لطبيعة الانتفاضة القادمة، وتكسر الصورة الاستكبارية المفولذة للكيان العنصري الصهيوني الذي لا يطال.
بعد الاستبشار بالانتفاضة اختار أهل الحل والعقد في فلسطين أن يعودوا للسيرة الأولى في اعادة انتاج الخلاف الفلسطيني – الفلسطيني بعد نصب الميكروفونات المعهودة وعقد المهرجانات التحريضية التي تعبر عن القلوب المغلولة الملآنة، ولا تعبر عن أي فهم نضالي لما تمر به فلسطين وما تمر به الأمة من أزمات، وكان ذلك من أسوأ الهدايا التي تقدم لشعب جبار على أبواب انتفاضة سوف تقلب المعادلات وترعب الصهاينة وتفتح صفحة جديدة في سفر النضال الفلسطيني، لا بل أنه كان خذلانا للجميع واقبالا على التناحر الذي يخدم الكيان العنصري أولا وأخيرا.
ومن المؤسف أن لا يدرك ولا يؤخذ بالاعتبار أن الصهاينة لا يعرفون طريقا أفضل لكسر ارادة الشعب الفلسطيني من هذا الخلاف والتنابذ الداخلي، وهذا التصارع العبثي الذي يديره ويتحمس له أطراف الحكم في فلسطين، ولذلك ترى الصهاينة يراهنون على الصراع والاقتتال وتخريب وحدة الشعب الفلسطيني كأداة مجانية لاستكمال مشروعهم العنصري، وهذا كما نعتقد من الأمور التي يجب أن تكون واضحة لكل الأطراف الحاكمة، وخصوصا بعد معركة طاحنة ومؤلمة في غزة، وبعد اعادة احتلال وتطهير مكاني صهيوني للقدس وللأقصى ومحاولة استباحته واخضاعه للسيطرة الصهيونية، وتغيير ماهيته ومكانته المقدسة.
الدفاع الحقيقي عن فلسطين لا يكون الا بوحدة شعبها وتوحده على خيار مقاومة الكيان الصهيوني، أما ما ينشأ من خلافات داخل الصف الفلسطيني فهي المعرقل الأساس لأي محاولة للدفاع عنها، وهذه قد تبدو من بديهيات النضال الطويل للشعب الفلسطيني الذي كان ولا يزال عصيا على الكسر، الا أننا نلاحظ أن هناك من يريد أن يتجاوز هذه البديهية لكي يغرق ويغرق معه الشعب الفلسطيني في أتون أو جحيم الشكليات السياسية فيصبح الاحتفال ومنصته وراياته مقدما على النضال، ويترك التناقض الرئيس لكي نخوض في الهامشي والشكلي والاحتفالي.
ونقول أخيرا لأصحاب العنعنات والمغرمين بالمكروفونات : لا تخذلوا شعبكم الجبار القادر دائما على الصبر والانتصار، ولا تخذلونا في هذا الزمن الصعب الذي نتمسك فيه بأي لمعة مقاومة، وأي استبشار بالانتصار على هذا العدو العنصري البغيض.