د. مثنى عبدالله
يُغير الحجر المُلقى سكون البركة، لكنهُ لن يُغير حالة الماء فيها. التحريك غير التغيير ومابينهما فرق كبير في الجهد والايمان والارادة والتصميم. ليس سرا أن نقول بأن ساحات الاعتصام في الانبار ونينوى وكركوك وبعقوبة وصلاح الدين وبغداد، قد ضمت من جاء لأجل تحريك الوضع العراقي تحريكا مؤقتا مدفوعا بغايات أنتخابية ومصلحية ضيقة، وغيرهم جاء يحمل دمه في راحة يده منتفضا على حالة الذل والهوان ومصادرة الحقوق والاضطهاد دافعه في ذلك مصلحة المجموع. أنها حالة تحدث في كل وقت ومكان، غير مرتبطة بزمان ومكان محددين بل بأرادة الانسان ووعيه، وبالظروف الذاتية والموضوعية المحيطة به أحيانا. عشر سنوات مضت من عمر العراقيين كانت فيها كرة المأساة تتدحرج لتطحن الجميع. كانت تكبر أمام عيونهم يوميا بل في كل لحظة نتيجة ما علق بها من أمال وطموحات ماتت، وأجساد بريئة قضت نحبها في السجون أو على قارعة طريق. وحدها هي التي لم تعرف من هو شيعي أو سني، مسلم أم مسيحي أو صابئي، عربي أم كردي أو تركماني. كانت تأخذ الجميع فترميهم أمام عدسات التلفاز أشلاء يصعب تحديد هوياتهم، عندها فقط تقول التقارير أنهم عراقيون بدون وصف طوائفهم وأعراقهم وأديانهم. وطوال هذه السنين كانت أعين من بقي على قيد الحياة ترقب يوما تتحرك فيه النخوة في رأس مُعتصم جديد، فيهب ملبيا نداء مستغيث أو مستغيثة.
وعندما أنتفضت الانبار ولحقتها بقية المحافظات أرتفعت درجة الامل بالخلاص في بارومتر حياة المهمشين والمقصيين والمجتثين، كما باتت ساعة حساب بالنسبة للفاسدين والطائفيين والمجندين للخارج. الاحرار أرتفعت وتيرة تضامنهم وأتسعت ساحاتهم وعلت أصواتهم بالحق، فخاطبوا العالم بعراقيتهم وأنسانيتهم ومظلوميتهم ولم يطلبوا أكثر من الحقوق. الطائفيون تجمعوا وأنكمشوا على أنفسهم وخاطبوا مليشياتهم ومحازيبهم بأن الطائفية في خطر، فشتموا وأستهانوا وهددوا الطرف الاخر. كان خيار الاحرار في ساحات الاعتصام عدم التراجع، لأن التراجع معناه التنكيل بهم مرة أخرى وأشد من كل ماسبق من قبل السلطة التي حسبت خروجهم تآمرا. بينما كان للسلطة الطائفية خيارات وليس خيارا واحدا. كان خيار القوة مطروحا وأستخدم في الانبار لكنه كان فضيحة كبرى أحرج العملاء الصغار وحواضنهم الدولية والاقليمية. كيف لمن يدعي بالديمقراطية والحكم الرشيد أن يوجه بنادقه الى صدور عارية، وأياد لاتحمل الا لافتات مطالبة بالحقوق؟. ثم كان خيار المراوغة والمراهنة على الزمن والظروف الجوية التي ستفت في عضد المتظاهرين، لكن أعداد المنتفضين كانت متوالية عددية في كل يوم. عندها لم يعد في جعبة الباطل غير المراهنة على النفوس وأنتقاء من خرجوا للتظاهر من أجل التحريك فقط، وهم ليسوا من بين صفوف المقصيين والمهمشين بل هم ساسة العهد الجديد، الذين سبق لهم أن كانوا شركاء في السلطة وأجراء لدى قوى الاحتلال، ولديهم بصمات واضحة في ما آل اليه الوضع العراقي، لكنهم أختلفوا على القسمة والحصة وأسهم المال والمناصب التي هي أستحقاقات المشاركة في العملية السياسية. لذلك عندما تم أرسال أحدهم الى ساحة الاعتصام في الرمادي ممثلا للسلطة وأسقطه المتظاهرون بالطريقة التي شاهدها الجميع، كانت صرخة المالكي (وجدتها) مثل صرخة نيوتن عند سقوط التفاحة أمامه لكن الفرق بين السقطتين كبير. صرخة نيوتن كانت دهشة بأكتشاف قانون جديد ساهم في بناء حضارة الانسان، لكن صرخة المالكي كانت صرخة غريق وجد قشة راح يراهن عليها لانقاذ مصيره.
لذلك بدأ اليوم دور من أسقطتهم ساحات التظاهر يبرز رويدا رويدا على الساحة. بعضهم أختاروا له أن يكون زعيم مليشيا حكومية جديدة شكلت في الانبار بأسم (الصحوة). والآخر أختاروا له دورا باهتا فخرج يعلن بأنه لن يعود الى الوزارة الا بعد الاعلان عن أن أجتماع مجلس الوزراء القادم سيخصص لمناقشة مطالب المحتجين، ثم ظهر على شاشات التلفاز معلنا عن الاجراءات التي قال بأن الحكومة نفذتها، كي يبرر عودته الى أجتماعات مجلس الوزراء وينقذ المالكي من فقدان النصاب القانوني والسقوط. لرب سائل يسأل لماذا يدعم المالكي والمطلك بعضها البعض في هذه اللحظة على الرغم من خلافهما المعلن؟ وهل هذا الدعم 'حقيقي' أم أنه 'مفبرك'؟ أننا نعتقد بأن الرجلين في حاجة ماسة وحقيقية الى بعضهم الاخر. صالح المطلك وبعد الموقف الاخير الذي جوبه به في ساحة الاعتصام في الانبار أدرك بأنه فقد شعبيته، ولم يعد له من حاضنة يستند عليها في المشهد السياسي سوى القوى التي تقف ضد التظاهرات، وهي القوى الممسكة بالسلطة الفعلية ومليشياتها وأحزابها وأجهزتها، فأنجرف سريعا بهذا الاتجاه كي يشكل معهم ثنائيا يمثل مايسمونه التوازن الطائفي في أجهزة الدولة والعملية السياسية. أما المالكي فأنه يبحث عن من يمثل الطرف الاخر وينتمي الى نفس النسيج الاجتماعي، كي يشكل معه شراكة سياسية وفق القواعد التي يفرضها هو لا الشريك. المالكي خبر المطلك سابقا ويعلم علم اليقين بأن الرجل لن يتخلى عن العملية السياسية، وعلى الرغم من أنه لايجرعه لكن المبدأ يقول من تعرفه على رغم أعتراضك عليه خير الف مرة ممن لاتعرفه.
لذلك أوعز للمطلق بالتحدث بأسم الحكومة والاعلان عن الحقوق التي يقولون أنها تحققت للمتظاهرين، كي يرفع من رصيد المطلك فيما يسمونه (الشارع السني) ويظهره بأنه هو الذي أنتزع الحقوق المزعومة. فالعراق مقبل على أنتخابات مجالس المحافظات في الشهر الجاري والانتخابات البرلمانية خلال أقل من عام. فهل من مصلحة المالكي وحلفه الطائفي أن تفرز ساحات التظاهر صقورا يمثلون المتظاهرين في مجالس المحافظات ولربما البرلمان القادم؟ أم يبقى المطلك والقوى السياسية الاخرى التي هي تحت السيطرة تمثل هذه المحافظات؟ أذن هي مصلحة لكلا الطرفين في العودة الى نفس المركب وتبادل الادوار وقبول أحدهم بالاخر حتى حين. العراقيون في المحافظات المنتفضــة فكما أنهم قبلوا تحدي السلطات ودفعوا ثمن ذلك دماء طاهرة في الرمادي والموصل، وأعتقالات وأغتيالات بالجملة، فقد بات عليهم أن لايعثروا بنفس الحجر الذي تعثروا به عندما أنتخبوا هؤلاء ودفعوا بهم كي يمثلوهم. أنهم اليوم أمام أختبار حقيقي لوعيهم من خلال التخلي التام عن أولئك الذين لم يقدموا لهم شيئا، وأن لا ينصتوا الى من يداعب غرائزهم ويعزف على وتر الانتماء القبلي والمذهبي لهم كي يعودوا الى أنتخاب نفس الوجوه. المطلوب اليوم أن تكون ساحات التظاهر وسيلة فاعلة لتغيير المشهد السياسي الذي بدونه لن يتغيير الوضع الامني والاقتصادي وكل مناحي الحياة في العراق .