ليس بالضرورة أن يكون الشخص مثقفا كي يقدر على المشاركة في أداء دوره في تحديد مصير أمته، لأن المسؤولية تكمن في ضمير وتفكير هذا الشخص الإنسان أولاً وأخيراً.. فكم من مثقف، بمعنى أنه حاصل على درجة علمية أو أكاديمية وهو بطبعه ضد عائلته بالأساس وضد أبناء الحي الذي نشأ فيه وبالنهاية هو ضد وطنه الذي ترعرع تحت سمائه.. وفي الفضائيات الناطقة بالعربية مع الأسف الشديد -والممولة ماديا ومعنويا من أعداء الأمة من داخل وخارج البلاد العربية- عدد من أولئك الذين يحملون لقب دكتوراه في الجامعة الفلانية أو رئيس قسم ما في المعهد الفلاني ويقيم في دولة غربية.. ومنهم من تفرد له وسائل الإعلام العربية زوايا أسبوعية وصفحات لكتاباته التي يدس بها السم بالعسل.. وفي الوقت ذاته ليس بالضرورة أن يكون كل أبناء الأمة ذوي اتجاه واحد أو تفكير واحد أميين أم مثقفين، لأن سنّة الحياة والتطور تكمن في النقيضين معاً من أجل البقاء والاستمرار والأفضل..
مما تقدم يمكن القول أن المسؤولية التي تقع على عاتق المثقف الوطني والقومي كبيرة وثقيلة جداً لمواجهة الواقع من أجل بناء الوطن والمواطن وهذا ما سنصل إليه تباعاً من خلال الآتي:
بداية يجب أن يمتلك المثقف الأصيل الجرأة لمواجهة الحالة التي أدت إلى حالة الانفصام بين الجماهير بشكل عام وبين قياداتها المختلفة الحزبية والمهنية والنقابية التي من المفترض أن تكون هذه القيادات أيضا من المثقفين.. في الوقت الذي يجب عليه مواجهة واضعي مناهج التربية والثقافة والتنشئة الوطنية في البلاد العربية، فكما تقع المسؤولية على المثقف الوطني والقومي كذلك تقع المسؤولية على وزارات التربية والتعليم بشكل عام لأنها تنتهج التفكير الغربي عموماً، ودور المثقف هنا إن كان في السلطة أو خارجها هام وضروري، لأن الكثير مما تعتمده بعض الوزارات حتى لا نقول الكل تعتمد على عدد من المثقفين الذين هم بدورهم يعتمدون إما على علاقاتهم ببعض المثقفين الغربيين أو على كتب التعليم التي تصدرها وزارات التعليم الغربية وهذه بدورها مرتبطة بهيكلية معينة ترسم فيها ملامح المواطن الغربي المستقبلية منذ نشأته في دور الحضانة حتى التخرج.. حيث نرى بعض الكتب التعليمية التي تحمل أسماء مؤلفها أو ومؤلفيها (مجموعة من أسماء الأساتذة) وأصحاب الألقاب الأكاديمية، بينما هي في أصلها غربية ولا يقول عنها أولئك أنها ترجمة هذا على سبيل المثال، دون أن نرى في حالات كثيرة تشكيل لجنة من الخبراء للتدقيق في هذه الكتب وموادها ومصادرها، وإذا حصل ذلك نجدها تمر بالموافقة عليها من قبلهم لأسباب كثيرة معروفة لجميع المتابعين، بينما الواقع يقول أن البلاد العربية يختلف فيها التعليم كليا عن دول الغرب بسبب فارق العادات والتقاليد والقيم الأخلاقية والفنية في أدق التفاصيل لا بسبب فارق الحضارات لأنه من بلاد العرب نشأت الحضارات والغرب بشكل عام لا يوجد لديه حضارة بالمفهوم التاريخي للكلمة لا بمفهوم (صاموئيل هنتنغتون) وأمثاله.. وفي أضعف الإيمان نجد أن وزارات التربية والثقافة والتربية والتعليم العربية تعتمد على التقليد بسبب أن بعض المثقفين الذين درسوا وتعلموا وتخصصوا في دول الغرب يجلبوا معهم كتب ووصايا وزارات التعليم التي توزعها على المعلمين والمعلمات في دول الغرب ولا تعطى للطلبة وهنا تكمن الطامة الكبرى، حيث نجد أن هؤلاء المثقفين يستعينون بتقليد هذه الكتب والوصايا ويقدمونها للوزارة في بلدهم التي بدورها تعتمدها.. ربما هذا لا يحصل الآن في كل البلاد العربية ولكنه حصل ويحصل في عدد منها، لذلك نجد أن مشكلة تربية وتنشئة الأجيال قد تفاقمت ويمكن ملاحظة ذلك اليوم في عدد من البلاد العربية، حيث نرى أن طلبة الجامعات والمدارس الثانوية يقلدون الغربيين في ملابسهم التي تحمل صوراً وأسماء لا علاقة لها بالعرب أو بتاريخهم ولا بتقاليدهم أو عاداتهم الحميدة ولا حتى بتراثهم الشعبي والتاريخي، وهنا يمكن التأكيد على أن الزي الموحد لطلاب مدرسة ما، مطلوب في كل المراحل، مما يؤدي إلى تنمية الحس والذوق والجمال عند الطلبة منذ الصغر، لأن هؤلاء الطلبة هم طبقة المثقفين الذين سيكون عليهم الاعتماد في بناء وطن المستقبل وازدهاره وتطوره العلمي.. مع العلم أن حرية الفرد مطلوبة في اختيار ما يناسبه من ملبس أو قص شعر وغير ذلك، ولكن المثقف الأول هو الذي ربّاهم وعلّمهم وتركهم يختارون دون توجيه منذ الصغر ودون أن يقول لهم أن مادة الجماليات التي يذهب الكثير لدراستها في ايطاليا وفنون الرسم في باريس مثلا يجب أن تكون هذه المادة عربية من قلب بلاد العرب وهذا الموضوع يحتاج لبحث طويل ومؤتمر خاص به للتعاون في سبيل وضع منهاج دراسي عربي وطني وقومي.. وكما نلاحظ ذلك في التعليم نجده أيضا في معظم الأغاني والأفلام السينمائية والتلفزيونية الهابطة وتحت خط الفقر الأخلاقي، كل ذلك بسبب سوء التوجيه والتربية الثقافية الصحيحة والمنهاج الوطني وصل حال الأجيال إلى ما وصلت إليه.. من هنا تأتي أهمية ودور المثقف الوطني والقومي في التأكيد على العادات والتقاليد الحميدة والقيم الجمالية والأخلاقية وترسيخ دراسة التاريخ العربي الذي يجب أن تعاد صياغته واكتشافه وكتابته بأيد عربية.. والتأكيد على إلزامية ومجانية التعليم في جميع مراحله وكذلك مجانية التطبيب ووضع البرامج الاقتصادية المناسبة والصحيحة لحماية الوطن مادياً والربط الاقتصادي وتبادل الخبرات والعمالة بين الدول العربية وهذه أيضا تحتاج إلى مؤتمرات وبحوث ودراسات متخصصة من طبقة المثقفين الوطنيين – القوميين..
وهذا يقودنا إلى المجال العالمي حيث العالم كله بات قرية صغيرة في عصر تلاشت فيه المسافات وأصبحت الدول ترتبط ببعضها البعض بواسطة شبكة الاتصالات الدولية (الانترنيت)، لذلك من الضروري والهام الاطلاع على تجارب الآخرين وأخذ منها ما يناسب البلاد العربية وإن كانت قليلة وذلك من أجل التواصل الحضاري والمعرفي ومعرفة الآخر، مع العلم أن معظم المثقفين العرب يعرفون عن مفكري وعلماء وفلاسفة وأدباء وشعراء وساسة وجغرافيا وتاريخ الغرب أكثر بكثير مما يعرفون عن مفكري وعلماء وفلاسفة وأدباء وشعراء وساسة وتاريخ وجغرافيا البلاد العربية عبر التاريخ وهذا أيضا بسبب الاختراقات في مناهج التربية والتعليم كما أسلفنا، فكم من مثقف عربي يستشهد في بحوثه ودراساته وكلماته بأديب أو شاعر أو فيلسوف أو عالم عربي؟!! بينما نجد الكثيرين منهم يستشهدون بما قاله العالم أو الأديب أو الفيلسوف فلان من إيطاليا أو فلان من بريطانيا أو علان من فرنسا وبشكل عام من بلاد الغرب بشكل أو بآخر؟!!.. أليس من الأفضل هنا التركيز على شعراء وأدباء وفلاسفة وعلماء العرب عبر التاريخ وإعادة إحياء نتاجهم وتوزيعه وتعليمه في المدارس والجامعات وفي كل المجالات؟!!.. وفي الوقت نفسه على المثقف دحض علميا وواقعيا ما لا يناسب البلاد العربية حتى يقتنع الطلبة والعامة من الناس إن عبر وسائل الإعلام أو من خلال الندوات والمؤتمرات والنشرات وغير ذلك من وسائل وأساليب تصل إلى كافة فئات المجتمع.. من هنا تستدعي الحالة عودة المثقف الواعي والوطني والقومي أساساً إلى جذوره الأخلاقية والقيم والعادات الحميدة النابعة من تاريخ العرب عبر العصور ليساهم في وضع منهاج دراسي علمي نابع من مصلحة الوطن والأمة.. بذلك يكون المثقف قد ساهم في مسؤوليته تجاه تربية الأجيال القادمة.
وكما ينطبق هذا الكلام على حامل الشهادات العلمية والأكاديمية، كذلك ينطبق هذا الكلام على الشاعر والأديب وكافة شرائح المجتمع، وعلى أصحاب التخصص في التلفزيونات والإذاعات العربية.. لأن مشاركة الجميع في بناء الوطن والأمة مطلوبة في كل حين وفي كل جيل وإلا سيضيع الوطن وتضيع الأمة!..
في الماضي القريب وتحديداً منذ فترة ثلاثينات القرن الماضي كان أكثر الأجداد والآباء غير مثقفين بمعنى غير متعلمين في المدارس والمعاهد، ولم يكن تحصيلهم العلمي أكثر من دراسة بسيطة عند (كتّاب) أو (شيخ زاوية)، والقليل منهم فقط كان يعرف (يفك الحرف) كما يقال أي القراءة البسيطة المحدودة.. ولكن حسهم الوطني والقومي كان عاليا، وكانوا مناضلين من اجل الوطن والشعب ليبزغ فجر جديد عليهم يعيدون فيه المجد والكرامة والعزة للإنسان كما للإنسانية، وفي الوقت نفسه كانوا يضحون بأنفسهم من اجل غد مشرف في سبيل تعليم أبنائهم كي يستلموا السلطة في الوطن وفي البلاد العربية حتى لا يبقى الوطن تحت نير الاستعمار والانتداب، وفي عهدهم تشكلت الأحزاب والتنظيمات من طبقة من المثقفين التي كانت تعبّر عن تطلعات الشعب والتي عملت على القضاء على ثالوث الفقر والجهل والمرض.. من هنا نرى الأعداد الكبيرة نسبياً من المتعلمين والحاصلين على الشهادات العليا.. ولكن المشكلة لم تحل جذريا، بل تفاقمت نسبة المتعلمين وبقي الوطن يعاني عموماً من مشكلة التخصص والاختصاصيين، الذين نجد الكثير منهم من خريجي الجامعات العربية يذهبون إلى بلاد الغرب للحصول الشهادات العليا والألقاب الأكاديمية والتخصص في المجالات العلمية المختلفة.. ودون أن ينتبه أحد إلى أن هذه الدول تضع سياساتها وبصماتها على هذا أو ذاك الذي يتخصص عندهم.. وأشير هنا إلى أن ذلك لا يعني أن يكون كل الذين تخرجوا من جامعات الغرب هم غير وطنيين وقوميين، لأن الكثيرين منهم الذين عادوا إلى بلادهم وقدموا التضحيات الجسام في سبيل وطنهم وأمتهم ومنهم تأسست الأحزاب والتنظيمات.. وكذلك لا يعني ذلك أنه بالضرورة أن يكون الذين بقوا في الخرج أو ذهبوا إلى بلاد الاغتراب كلهم غير وطنيين وقوميين لأن عددا كبيراً منهم كان يعمل ولا زال حتى اليوم هم أو أبناءهم أو أحفادهم يعملون في سبيل بلدهم الأم وعروبته وانتمائه.. في المقابل أيضاً نجد العديد من الذين عادوا إلى بلادهم كما أعداد كبيرة من الذين بقوا في الخارج أو استلموا مناصب معينة في معاهد أو أقسام دراسات معينة في جامعات غربية كانوا وبالا على وطنهم وعلى أمتهم بقصد أو بغير قصد.
لذلك أكرر أن دور المثقف الوطني والقومي العربي في هذا الصدد أن يعمل على المساهمة في وضع المناهج التعليمية العربية النابعة من مصلحة الوطن والأمة. كذلك عليه أن يأخذ دوره في باقي المجالات المعاشة يومياً من قبل المواطن، الذي يعاني الكثير من الأوضاع المتفاقمة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، ويعيش في قهر يومي مستمر.. ولأن هذا المواطن الذي من المفترض أن يكون أول المدافعين عن وطنه ضد أي غزو أو عدوان فأنه إما يتقاعس أو يحاول بشتى السبل إرسال أولاده إلى خارج الوطن هروباً من الجندية أو الخدمة الإلزامية في جيش بلده ولو لمدة محدودة من سنة إلى ثلاث سنوات، وإذا لم يقدر على تأمين سفر ابنه إلى الخارج نجده يتذلل لهذا أو ذاك كي يبقى ابنه بعيدا عن حدود الوطن إما في الثكنات أو سائقاً لدى هذا القائد أو الضابط، وهذه لها أسباب عديدة ومتنوعة وأيضا تحتاج إلى المثقف الوطني والقومي والنظام الوطني والقومي عملياً وبشكل عام، لأن المواطن الذي يدافع عن وطنه بكل ما يملك إنما يفعل ذلك عندما يكون له دور في بناء وطنه وتحديد مساره ومستقبله، وعندما يكون مستفيداً من وطنه ونظامه في تأمين أهم احتياجاته إضافة للتعليم الإلزامي والمجاني لكل أولاده ومجانية المشافي ومراكز العلاجات الصحية وتأمين الشيخوخة وإيجاد الوظائف والعمل لأبنائه داخل الوطن أو ضمن حدود بلاد العرب، وعلى الأقل تأمين المسكن المجاني أو بإيجار رمزي على أرض وطنه الذي دافع عنه واستشهد من أجله أجداده وآبائه الذين لم يعد يذكرهم أحد حتى في الحلقات الدراسية أو في المناهج التعليمية، فإذا تم تأمين ذلك لهذا المواطن عندها نراه هو أول من يذهب للدفاع عن بلده طوعياً ضد أي غريب ويحث أبنائه على الذهاب إلى أقصى حدود الوطن في سبيل الدفاع عن وطنه..
ومن إحدى أولويات المثقف الوطني والقومي الانتماء أن يعمل على شرح (الديمقراطية) ومفهومها المختلف بين كل فئات الأقليات القومية في البلاد العربية، مع العلم أنه يوجد عشرات أن لم نقل المئات من الكتب التي صدرت من أفراد أو مؤسسات أو تنظيمات وأحزاب تطرح وتتحدث وتشرح الحلول لهذا الموضوع – القضية، إلا أن عامة المواطنين العرب لم تعد تأبه أو تؤمن بهذه الكتابات لأنهم يسعون وراء لقمة العيش (من الفجر إلى النجر) كما يقال سعياً لتأمين حياة أفضل لهم ولأولادهم ومن اجل تأمين مستقبلهم المجهول.. ولنأخذ على سبيل المثال أي بلد من البلاد العربية وفي معظم الحالات إذا تمت الدعوة لأمسية أدبية أو ثقافية أو جلسة شعر نجد أن العدد محدود لا يتجاوز المئة شخص حتى ولو كانت الدعوة مجانية، أما إذا كانت الدعوة إلى حفلة غنائية وبأسعار رمزية نجد الآلاف، أما إذا كانت بأسعار تصل إلى حوالي المئة دولار نجد عشرات المئات!!.. وفي إحدى البلاد العربية يتم فيها عدد من الحفلات الفنية أسبوعياً وثمن بطاقة الدخول لحفلة من هذه الحفلات يصل إلى حوالي ثلاثمائة دولار للشخص الواحد فنجد أن عدد الرواد يزيد عن عدة مئات في الكثير من الحالات!!.. قد يسأل البعض وما دور المثقف في ذلك؟.. وفي الوقت ذاته لماذا هذا التناقض في طبع المواطن الذي يسعى من (الفجر إلى النجر) لتأمين لقمة العيش له ولأولاده ومن أين يحصل على هذه الأموال للحفلات والسهرات الفنية ولا يدفع ربع هذه القيمة لحالة من الحالات الوطنية؟!.. وهذه أيضا تحتاج إلى بحث طويل ولكن يمكن أن نؤكد أن عدد الذين يذهبون إلى الحفلات لا يتجاوز نسبة ضئيلة من عدد سكان الوطن الذين يموت منهم الكثيرين على عتبات المستشفيات وفي المنازل دون أن يدري أحد بهم نتيجة الفقر والحرمان وسؤ التغذية..
وهنا تأتي المسؤولية الهامة والكبيرة للمثقف الواعي وأكرر الوطني والقومي لأن الكثير من الأدباء والشعراء الذين كان لهم الدور البارز في تحقيق النهضة العلمية ومحاربة المستعمرين إبان فترة الاستعمار والانتداب الغربي للبلاد العربية باتوا نسياً منسياً، ولم يعد أحد يذكرهم لا في كتاباته ولا في المناهج التعليمية والدراسية، وفي المقابل نجد أن معظم الأدباء والشعراء اليوم يفتقرون إلى من يطبع لهم نتاجهم وإذا تم ذلك لأديب أو لشاعر فأن عدد كبير من الطباعات نتاجاً وكلمات دون المستوى المطلوب حتى لا نقول هابطة.. والجيد منها لا يجد طريقه في معظم الأحيان إلى النشر إلا على نفقة الكاتب أو المؤلف..
أما من الناحية الإعلامية فالمطلوب من المثقف لتحديد مصير أمته تحديد مسار الإعلام العربي في الاتجاه الوطني والقومي وأن يبتعد عن الطائفية التي هي آفة القومية وذلك ضمن شعار قديم ودائم كما اعتقد وهو (الدين لله والوطن للجميع).. لأننا فعلا نريد أن يكون في البلاد العربية سلطة رابعة حقيقية إلى جانب السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية كما في الدول التي قطعت شوطاً طويلاً في طريق حرية التعبير عن الرأي، ولكن بمسؤولية واحترام حق الفرد والمجتمع وأمن البلاد الوطني والقومي.. ومن يراجع تاريخ الصحافة في الدول الغربية التي قد يتخذها البعض مثالاً للديمقراطية، فأنه يجد أن الإعلام فيها ليس حرا كما يعتقد، بل أنه مسيطر عليه من قبل أعداء الشعوب بطريقة أو بأخرى وفي النهاية هو إعلام موجه، وعلى الرغم من ذلك نجد مساحة واسعة لحرية التعبير عن الرأي في هذا الإعلام، وضمن شروط أصحاب الصحيفة والتي منها عدم المس بأعداء الإنسانية المعروفين للجميع، بينما الاتهامات ضد العرب والمسلمين نجدها كثيرة هنا وهناك.. لذلك نجد أنه من غير المسموح للكاتب أن يذكر أسماء بقصد التشهير بها حتى لو امتلك أدلة موثقة ومستمسكات قانونية، إلا بعد موافقة أو استشارة قانونية.. وقد يحدث أحياناً في هذه الدول أن يستغل بعض الصحافيين حرية التعبير عن الرأي التي تتمتع بها وسائل الإعلام في تلك البلاد ويخوضون في أمور قد تمس سمعة أفراد أو جماعات من دون أن يكون لديهم الدليل على ما يسوقون من اتهامات أو إدانات، الأمر الذي قد يؤدي في بعض الحالات وهي قليلة جدا إلى تدخل السلطة القضائية لإظهار الحقيقة، وعلى الرغم من ذلك فأن وسائل الإعلام هذه لا تذكر تلك الحقيقة.. كما نجد في أحيان كثيرة شخصاً ما يطل من محطة تلفزيونية أو في كتاب ما أو صحيفة ما ويهين ديناً ما أو أتباع ديانة ما وفي حال إذا كان ارتكب أحد الأشخاص من أي قطر عربي ما نجد بأن حملات التشهير من قبل كتّاب أو أفراد وحتى من مسؤولين في بعض الأحيان الذين لا يتوانون عن ذكر اسم بلد ذلك الشخص ويشيرون إلى أن كل أبناء بلد ذلك الشخص هم من المجرمين، عندها تتدخل جهة ما في تلك الديانة أو مؤسسة أو تنظيم بدعم من الجهات المسؤولة في ذلك الدين ويتم اتخاذ الإجراءات القانونية التي تأخذ فترة سنوات أحياناً تنتهي بالحكم باعتذار من ذلك الكاتب أو من الصحيفة لتلك الجماعة.. مما يؤكد أنه لا وجود لحرية مطلقة، كما يعتقد البعض، لأن الحرية الحقيقية هي الحرية المسؤولة التي لا تسيء إلى الآخرين ولا تلحق بهم أذى.. وهناك مثل أو قاعدة متعارف عليها مفادها أن حرية الفرد تنتهي عند حدود الآخرين.. والرقابة في الصحف في هذه البلاد دائما هي رقابة ذاتية من صاحب الصحيفة ومسؤول أو رئيس التحرير..
وأخيراً وليس أخراً أود التأكيد على ما ذكرته في إحدى كلماتي منذ عدة سنوات وهو ما أؤمن به بأن المثقف الأصيل يبقى المعبر الصادق عن حضارة كانت رافداً مهماً من روافد الحضارة الإنسانية. هذه الحضارة التي تواجه اليوم تحديات كبيرة تحاول طمس معالمها بطرق شتى ووسائل مختلفة، أهمها وأخطرها هو محاولات النيل من اللغة العربية باعتبارها المعقل الأخير من معاقل الحضارة العربية عبر التاريخ.
وأؤمن بأن ارتفاع نسبة المتعلمين أو حملة الشهادات، لا يدل على الرقي أو التطور أو التقدم أو على ارتفاع نسبة الوعي، لأن العلم يوصل إلى حمل الشهادات المتدرجة المختلفة.. ولكن قد يكونُ أصحابها أشد خطراً على المجتمع من الجاهلين غير المتعلمين.. لأن الثقافة الحقيقية تعني الوعي الكامل لحقيقة الإنسان وسِرَّ وجوده وقيّمه المختلفة.. وهذا يحظى به المرء متعلماً كان أم أميّاً، لذلك فأن الثقافة وقبل كل شيء هي وعي للحرية وللقيم الإنسانية وممارسة لها على أرقى المستويات، وقليلون هم الذين يتحلون بها، لأن التعبير عن الجمال أو الحزن، أو عن مأساة الوطن لا يتطلب الشهادات العليا، لأن لغَة التعبيرِ هي هاجس شفاف يسكن داخل كلَّ إنسان، وكلٌّ يعبّر عنه بطريقةٍ مختلفة، وكلها تصب في يَمٍ واحد. مع إيماني بأنه من الضرورة أن يكون المثقف الواعي والوطني والقومي من حَمَلةِ شهادات التخصص، لأن الكلمةَ الصحيحة والإيمانَ بها وبتأثيرها يكونُ مضاعفاً.
من هنا نجد بأن الصلة والعلاقة بين الثقافة والشعر والثورة علاقة حميمة.. إذ حين يكون الإنسان ثائراً، لا بد أن يكون شاعراً على نحو ما، وحين يكون شاعراً لا بد أن يكون أيضاً ثائراً بشكل ما، فحينما تثور فإنما لأنك تحب، فالحب في الثورة يسبق البغض، وحين تكتب شعراً، فإنما لأنك تحب، وتثور إن كان ثمَّة ما يحول دونك والمحبوب.
وأرقُّ الشعر كان دائماً بأعظم الحب، وأفضل الثائرين أكثرهم حباً للوطن، للعائلة، للحبيبة، للصديق، وبشكل عام للإنسانية..
من كل ما تقدم نجد أن المطلوب من المثقف الأصيل أن يكون ثائراً فجذوة الثورة تكمن في كلمة صادقة، معبرة عن مكنون شعب بأسره، تكمن في الحلم.. ودور المثقف هو المحافظة على الحلم والكلمة المعبرة، ومن أبقى على حلمه فقد أبقى على رغبة الانتصار لديه..
وبما أن المطلوب من المثقف الواعي والوطني والقومي العربي كثير فيجب ألا ننسى أن هذا المثقف يعيش ضمن أوضاع اقتصادية سيئة أو غاية في الصعوبة ولا يمكنه أن يحقق المعجزات في وطن تكبله الأسلاك من كل الجهات وهو أي المثقف مكبل أيضاً بالسعي لتحقيق لقمة عيشه وعيش أفراد أسرته.. وربما ينجح المثقفون إذا اتحدوا في تكتل وطني وقومي منظم.. دون أن ننسى أيضاً بأن عدداً كبيراً من الأدباء والشعراء وأصحاب الخبرات والكفاءات العلمية من الأحرار والشرفاء العرب الذين هم من المثقفين التائهين على أرصفة بلاد الغرب، الذين يحترقون في دواخلهم لما آلت إليه أوضاع البلاد العربية، والكثير منهم على استعداد للمساهمة في تحديد مصير الوطن والأمة في حال وجدوا الوطن الذين يستوعبهم ويؤمن لهم العيشة الكريمة وحرية القول والتعبير.. وهنا نعود إلى المثقف العربي داخل البلاد العربية ودوره والمطلوب منه رغم كل المآسي الاجتماعية والاقتصادية التي يعيشها في العمل على تحديد دوره بما سبق مما طرحته ومن ثم العمل على ربط المثقف العربي الشريف في ديار الاغتراب أو بلاد المهاجر كي يكون الدين لله والوطن للجميع.