اسماعيل أبو البندورة
السؤال الكبير المفيد الذي يطرح الآن على صعيد الامة يتمحور حول كيفية قراءة الواقع العربي الراهن بكافة عناصره ومشاهده وظواهره، من اجل ترتيب، اذا لم نقل توحيد الرؤى القومية المختلفة حوله، ذلك أننا اصبحنا نلاحظ الصراع والاختلاط والتنافر والتجابه والتضاد في اكثر من مجال ورؤية وتحليل، وتلك كما أرى واحدة من مساويء الواحدية والتعصب السياسي، والجمود العقائدي، والبعد الواحد الذي يتمسك بمقولاته ويقدّس يقيناته باصرار عجيب، وليست من صنائع الاختلاف الايجابي المرغوب والمطلوب، والمعترف به دائما، والمحبب لدى العقل المنفتح.
الواقع العربي الراهن يستوجب ظهور رؤى مختلفة ويسوّغ اختلافات في النظر والتحليل، ولكنه لايسوّغ الواحدية والتعصب والتمسك احيانا بالخطأ أو ماهو مجاف للعقل وضدّه، وهذا هو مصدر القلق ومصدر التنافر وعدم الاتفاق على الحقائق الواضحة، وهو الزاوية المعتمة التي تحصر البعض في قتامتها وبغضائها وتؤدي الى افشال وتعطيل أي توافقات فكرية وسياسية في الساحة العربية وابقاء التأزم قدرا ومصيرا أبديا.
حتى هذه اللحظة لم تتفق أي تحليلات قومية عربية على تسمية ماحدث في معظم اقطار الوطن العربي من تطورات وتحولات منذ عام 2010، واضطربت المصطلحات وتنافرت المفاهيم الى حد كبير لم يوفر حتى اللحظة أية ممكنات للامساك بالنقطة المفتاحية التي يمكن أن تدخلنا الى أبهاء الظاهرة، وتعرفنا على الطرق والمسارات التي يجب أن تسلك حتى نتعرف علىيها ونمضي بعدها في رؤية بقية المشاهد والتجليات، وعبّر هذا الاختلاط بطريقة واخرى عن الجفاء والمجافاة التي حصلت بين العقل والواقع العربي، وبين من يفكرون بهذا الواقع وبين معطياته واشكالياته وتجلياته وتاريخ مأساته.
وحتى هذه اللحظة تمسك البعض برؤية واحدية (أسود وأبيض) لما يحدث ويصطرع في الواقع العربي، ولم يلحظ التموجات والتعرجات المختلفة في هذا الواقع، ولم يتابع كافة السياقات التي تجلت وتبدّت فيه في المراحل المختلفة، ذلك أن هذا المدّ العربي الجديد أنتج في لحظات انبثاقه ومابعدها مشاهد تراوحت بين الايجابي والسلبي، الصاعد والهابط، بين مافيه لصالح النهضة والتقدم، ومافيه لصالح الردة والارتداد والفوضى الهلاكة، وجرت فيه استدخالات غريبة ومريبة من قبل القوى الاستعمارية والقوى المتعاونة معها في الداخل من اجل اجهاضه وحرف مساراته، وتغيير ماهيته وتحويله الى ثورة مضادة.
لقد حتم ذلك (الفوضى الفكرية وتجلياتها) تطوير القراءة القومية العربية للواقع العربي الراهن، والطالع في خضم هذا المدّ (غير المسمى أو المختلف على تسميته) بحيث تستجلي كافة العناصر المؤثرة في صياغة وصناعة هذا التحول الجديد، وبما يخدم عقل الامة وتطورها، وأن تزيح الالتباسات عنه، وأن تبلور النقاط الايجابية البارزة فيه وتحيط بماهو سالب ومحبط ومجهض فيه، بحيث يصبح واضحا امام عقل الناس ماهو في صالح تقدم الامة، وما هو معاد لهذه التقدم. الا أننا رأينا تمسك بعض القراءات بالابعاد الواحدية والتمحور حولها بحيث أضاعت فرصة احياء تقاليد معرفية جديدة في التفكير والتحليل، واصبح ذلك جزءا من الفوضى أو غطاء نظريا لها تسلح به البعض للدفاع عن قصور فكره وانحصاره في زاوية ضيقة وانغلاقه على مسلماته ومسبقاته.
كنا نحبذ أن تأخذ القراءة القومية كافة الابعاد والسياقات القديمة والحديثة والمستجدة من اجل التوصل الى تقديم معرفة متجددة وواقعية ومنطقية حول الواقع العربي الجديد الذي كان ولا يزال يتشهّى الانقلاب والتغيير وهاهو امام واقع تتدحرج فيه كرة التغيير والتمرد والانتفاض من قطر لآخر، ولا أحد يهجس أو يعرف الى أين يمكن أن تصل هذه الكرة المتحركة سياسيا وتاريخيا في مآلاتها النهائية. كانت هناك الانظمة التسلطية المتعفنة، وكانت هناك القوى الاستعمارية والصهيونية المتربّصة، وكانت هناك المجتمعات المحطمة والمقهورة وفقرها ومرضها وجهلها وامتهانها وعذاباتها، وكانت هناك القوى السياسية والدراويشية التي تسللت الى فراغ هذه المجتمعات والى عقلها، واستطاعت أن تدير الفراغ وتوظف مجاهيله لصالحها، وكان كل ذلك يستدعي تحليلا منفصلا ومتصلا بالظاهرة الجديدة حتى نستخرج منه الرؤية القومية المطلوبة في المرحلة الراهنة، لا أن نأخذ جزئية منه ونوقف التحليل والعقل عليها وأمامها، وندخل ساحات التحليل بذراع وعين واحده اذا لم نقل انتقائية وقاصرة.
لقد اصبح هذا هو مانختلف عليه في القراءة والتفكير والتحليل الى حد كبير، واصبحنا نرى انفلات الواقع والعقل الموجه له، واشعنا بهذا الانشداه التشاؤم دون أن ندري، وعدنا الى عاداتنا القديمة في اعادة انتاج العقل الشقي المضطرب، كما اصبحنا نرى ضرورة ماسة في ترتيب عقلنا ازاء مايحدث حتى نشارك فيه مشاركة ايجابية فاعلة وحتى لانخسر دورنا التنويري في القراءة الصحيحة والاستنارة واجتراح الاجوبة المطابقة للواقع العربي.