قمة مجلس التعاون والمشهد العربي
د. علي محمد فخرو
بعد أيام سينعقد مؤتمر القمًّة السنوي العادي لرؤساء دول مجلس التعاون، فهل ستكون مواضيع جدول أعماله عادية، وبعضها مكرَّر يجتٌّر نفسه، أم سيتخطاها لطرح ما هو غير عادي وغير روتيني تفرضه التحولات الكبرى في الوطن العربي والجوار والساحة العالمية؟ في اعتقادي سيحتاج القادة إلى أن يمعنوا النظر في عدة أمور ثمً يحوّلوا ذلك إلى قرارات لتنفيذها في الواقع دون إبطاء أو التفاف من حولها.
في قمَة قائمة تلك المواضيع موضوع ثورات وحراكات الربيع العربي الذي فرض نفسه بقوة وحفر عميق على الواقع العربي برمًته، جغرافياً وشعبياً وفكرياً ونفسياً، متحدياً أوضاع الماضي والحاضر بعنفوان شبابي لن يهدأ ولن يستكين.
إنه موضوع مرشَح لأن يمتدَ في المستقبل لعقود، وبالتالي لن يفيد معه التجاهل فلعلَ مرور الزمن كفيل بإنهائه، ولا إيقاف زحفه نحو مجتمعات دول المجلس بصرف سخي لفوائض ثروة البترول أو الاعتماد على الولاءات الفرعية. فالثورات ليست فقط عبارة عن أحداث يمكن حصرها وتجنُّب نيرانها بوسائل مادية، وإنما هي أيضاً أفكار وتطلعات وأحلام وآمال متى ما دخلت العقل والوجدان تولِّد طاقة هائلة في النفوس لا تهدأ ولا تخبو حتى تتحقق في الواقع المعاش وفي المستقبل الواعد.
في قلب تلك الحراكات والثورات التطلُع نحو التمتع بالحريات السياسية والفردية الاجتماعية، وبالانتقال الحقيقي نحو تنظيم المجتمعات على أسس ديمقراطية، وبإحلال دولة العدالة الاجتماعية محلَّ الدولة الريعية، وبالاعتراف بحقٍّ المرأة التي شاركت وتشارك بنفس زخم مشاركة شقيقها الرجل بالتمتُع بكل الميزات التي ستأتي بها أية تغييرات وإصلاحات في المستقبل.
وعليه فان تمعُن القادة الجديٍّ في ذلك المشهد يجب أن يؤدَّي إلى طرح السؤال التالي: هل أن الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في مجتمعات دول المجلس في وضعها الرَاهن تلبٍّي تلك المطالب والتطلعات؟
وإذا كان الجواب هو كلاٍّ فما المطلوب عمله على وجه السّرعة والكفاءة للانتقال السٍّلمي التشاركي الذي يؤدٍّي إلى تحققها؟ وبدون دوران لا جدوى منه حول الموضوع فان الطريق أمام دول المجلس، غير المملوء بالآلام والهزَّات في المستقبل، هو طريق اتخاذ قرار إرادي شجاع بنقل مجتمعات هذه الدول، بخطوات معقولة تراكمية، لتصبح مجتمعات ديمقراطية في حقوقها ومؤسساتها وأنظمة حكمها.
هذه فرصة للتعامل مع المشهد العربي الحالي بمرونة وعقلانية وانفتاح على ذات المستقبل الذي يتوجه نحوه ذلك المشهد.
للطبيب اليوناني الشهير أبو قراط قول له دلالة يجب أن نعيها، وهو أن التشافي من المرض يرتبط بمرور الوقت، لكنه أحياناً يرتبط أيضاً بالاستفادة من الفرص.
الموضوع الثاني الذي يحتاج إلى تمعُّن شديد من قبل القادة هو المشهد المالي والاقتصادي العولمي وتأثيراته الهائلة على أوضاع دول مجلس التعاون المالية والاقتصادية. إن هناك مراجعة متعددة عبر العالم كله، بما في ذلك بلدان الغرب الرأسمالي، للنظام المالي- الاقتصادي العولمي.
وهي مراجعة ستنتهي بتغييرات كبيرة في الأهداف و الأنظمة والعلاقات التي تحكم هذا النظام، وذلك على ضوء الأزمات المالية والاقتصادية والاجتماعية التي لا زال العالم يواجهها. وأمامنا اليوم مثال دول الإتحاد الأوروبي التي تعيش أزمات العجز والإفلاس وإمكانية انهيار ما بنته طيلة ستة عقود.
وليس بسرٍّ أن الجوانب السَّلبية في ذلك النظام والأزمات التي صاحبته قد انعكست على دول المجلس كخسائر مالية كبيرة قدرت بمئات المليارات من الدولارات وكأخطار مستقبلية على الكثير من استثماراتها. من هنا، اذا كانت دول المجلس تتجه نحو المزيد من الاندماج الاقتصادي فإنها مطالبة أن تتعلم من دروس الغير، وعلى الأخص الدَّرس الأوروبي، لإجراء تغييرات وقائية تطال الكثير من ممارسات دولها السابقة بالنسبة للميزانيات والاستدانة والاستثمارات وتجنّب المطبَّات العولمية وألاعيبها. ونحن هنا نتحدث عن تغييرات مشتركة على مستوى المجلس وليس فقط على مستوى هذه الدولة أو تلك. ولنتذكر مرة أخرى بأن أخطاء حدثت في اليونان وإيطاليا وايرلندا وغيرها انتهت بتهديد استقرار ومستقبل الآخرين.
المشهدان العربي والعولمي يحتويان على جوانب كثيرة تستحق أن يتمعنَّ قادة المجلس في أسبابها ومعانيها وما تحمله من خير أو شر، وأن لا يتعاملوا معها وكأنَّ الشعوب التي يحكمون تعيش على هامش ما يجرى في المشهدين. شعوب دول المجلس، بعد أن تعلًّمت وانفتحت على العالم بألف شكل، هي في قلب ما يجري في وطنها العربي الكبير وفي ساحات العالم. وبالتالي فإنها ستراقب بوعي وأمل ما ستتمخَّض عنه اجتماعات القمة في المستقبل المنظور وستكون لها انطباعاتها وتقييماتها ومواقفها. المطلوب هو أن يرتفع مستوى كل مؤسسات مجلس التعاون، بما فيه مؤتمرات القمة، ليتفاعل بحيوية وإيجابية مع وعي الشعوب وآمالها.