:: في ضوء قمة التعاون ::
قراءة ضرورية لمفاهيم الديمقراطية ومعاني الوطنية
قبل أيام انتهت في المنامة أعمال الدورة الخامسة والعشرين لقمة دول مجلس التعاون الخليجي التي أسفرت عن صدور العديد من القرارات حول القضايا السياسة والأمنية في ضوء ما تشهده المنطقة من أحداث وتطورات خاصة على صعيد أوضاع القطر العراقي الشقيق وما يعيشه هذا البلد من معاناة وويلات فاقت كل التحمل والتصور في ظل الاحتلال الأمريكي البريطاني، كما صدر عن القمة ما أطلق عليه "بإعلان المنامة" الذي تحدث عن عزم ورغبة دول المجلس على "مواصلة التحديث والإصلاح لمواكبة العصر ومتطلباته الحضارية، وبما يحقق طموحات وآمال المجلس وشعوب المنطقة" وقد جدد القادة من خلال هذا الإعلان إيمانهم ويقينهم الراسخ بأن الجوهر الأصيل للديمقراطية لا يستورد بل ينبع من الذات الوطنية العميقة وتراث وتاريخ دول المجلس وشعوبها" وفي ذات السياق جرى التأكيد على حرص هذه الدول على المشاركة أو استضافة الاجتماعات والمنتديات المتعلقة بالإصلاح السياسي والاقتصادي، كما هو بالنسبة إلى ما يعرف "بمنتدى المستقبل" لدول الشرق وشمال أفريقيا ومجموعة الدول الثمانية الذي انعقد اخيراً في المغرب، ومن المنتظر أن تقوم مملكة البحرين باستضافته في نهاية العام القادم 2005 وكل ذلك يأتي حسب "إعلان المنامة" في إطار رغبة دول المجلس على التواصل والتعاون مع العالم لتعميق فكر التجديد والإصلاح واثراء الحوار بما يحقق الغايات الوطنية والقومية في الأمن والاستقرار والرخاء لدول وشعوب منطقة الخليج العربي.
ولأن الأوضاع الخطيرة التي يمر بها العراق تمثل أخطر القضايا الأمنية والسياسية على دول المنطقة كان لا بد أن تكون هناك القرارات والمواقف التي تعكس قلق وحرص هذه الدول على ما يعانيه ويكابده هذا البلد من ويلات ومآس وكوراث أمنية وسياسية واجتماعية سببها الاحتلال الأمريكي وحكومته العميلة التي نصبها وفق إرادته ومصلحته، لذلك فأن المجلس حسب بيانه "قد تدراس استمرار عدم الاستقرار الأمني والسياسي في العراق وعبر عن تعاطفه الكامل مع معاناة شعبه وعبر عن رفضه لكل ما يؤدي إلى تجزئة العراق والحرص على سيادته واستقلاله ووحدة أراضيه ورفض التدخل في شؤونه الداخلية، وتأكيداً لهذا الموقف أبدى المجلس ((دعمه لما يسمى بالعملية السياسية المتمثلة في إجراء الانتخابات التي من شأنها أن تؤدي إلى تمكين الشعب العراقي من تحديد مستقبله السياسي والاقتصادي وتوفير الأمن والاستقرار)) بحسب البيان الختامي للمؤتمر.
كان المؤتمر المذكور ينعقد وتصدر عنه تلك القرارات والمواقف في وقت يحتدم فيه جدل حاد حول التغيير والإصلاح في الدول العربية ومنها بالطبع دول الخليج العربي ويأخذ هذا الجدل والنقاش طابع الخلاف بين قطاعات واسعة من فئات الشعب والقوى السياسية المؤمنة والداعية إلى التغيير والإصلاح، منها من يرى ويطالب بالتدخل الخارجي ولا يجد في ذلك غضاضة أو عيب سياسي أو أخلاقي في الاستقواء بالخارج على الداخل، وأن هذا البعض لا يكترث بما يمكن أن يجلبه هذا التدخل من عدم استقرار أو تمزق وتقاتل بين أبناء الشعب الواحد، وفي مقابل هذا الرأي هناك من يرفض التدخل والوصاية الأجنبية ويرفض رهن الوطن وسيادته تحت يافطة (الديمقراطية) المستوردة مع الإقرار بضرورة إجراء الإصلاحات الشاملة ووضع حد للاستبداد والقمع الداخلي والتسليم بأن الغلو في التسلط والاستبداد من جانب الأنظمة واستشراء الفساد السياسي والاجتماعي وغياب الديمقراطية كلها عوامل دافعة للإحباط وتثبيط الهمم ومشجعة على الأغراء للتطلع للخارج الذي يتحين الفرص والمتحفز للانقضاض.
وهذا الانقسام الحاصل حول قضايا الإصلاح والديمقراطية ينسحب ليطال تلك القيم والمبادئ المتعلقة بالوطنية والخيانة الوطنية عندما تصل الأمور حد استعداء الخارج والتآمر معه على الوطن، ومن المؤكد أن بلوغ الخلاف إلى هذا المستوى يعود في جزء منه إلى جذور التكوين السياسي والثقافي لتلك القوى المتعارضة حول هذه المسألة، كما يعود في بعضه إلى مستجدات الأحداث والتطورات على الساحات الوطنية والإقليمية والدولية التي تلعب فيها الولايات المتحدة الأمريكية في الوقت الحاضر الدور الأكبر لاستغلال نضال وطموحات شعوب المنطقة وقواها السياسية وتطلعاتها نحو التغيير والديمقراطية ومحاولة إيقاعها في وهم "ديمقراطيتها الموعودة" وتهيئة الظروف للاستنجاد بها كمنقذ من بطش واستبداد الأنظمة، وهذه المحاولات والتحركات الأمريكية تسندها آلة إعلامية ودعائية هائلة يشارك فيها بعض الكتاب وأشباه المثقفين من المنظرين للاستقواء بالخارج وغيرهم من حملة الأقلام ممن هم في معسكر التواطؤ مع الغزو والاحتلال بدوافع مصلحية شخصية أو حزبية أو طائفية ويسوقون فكرة إمكانية ولادة الديمقراطية من رحم الخيانة، وهو ما يمثل قمة التزييف للديمقراطية فهذه ديمقراطية من النوع التي يشرع قوانينها وينظمها المحتل ويحرس صناديقها "الخونة والعملاء" ويحصد أصواتها ونتائجها "اللصوص والغرباء"
عند هذه النقطة أظن قد أصبح مفهوماً لماذا مهدنا لحديثنا بالإشارة إلى تلك الفقرة الوارد في "إعلان المنامة" التي تحدثت عن التحديث والإصلاح وعن الإيمان الراسخ بالديمقراطية النابعة من الذات الوطنية ومن تراث وتاريخ دول المنطقة، ولماذا الحقناها بنص القرار الصادر عن قمة التعاون المتعلق بالأوضاع في العراق وأكد على سيادة العراق ووحدة أراضيه واستقلاله ورفض كل ما يؤدي إلى تجزئة هذا البلد، وكذلك دعم ما يسمى (بالعملية السياسية) المتمثلة في إجراء الانتخابات (المفروضة بقوة السلاح) والتي سوف تؤدي (حسب البيان) إلى تمكين العراقيين من تحديد مستقبلهم السياسي والاقتصادي. نحن نورد كل هذه التفاصيل لتكون المقارنة والمقاربة واضحة ولكي نلفت النظر إلى حجم التناقض التي أوقعت القمة نفسها فيه من خلال طريقة تعاملها مع "الاستحقاقات الداخلية" من جهة والتجاوب مع الأجندة الأمريكية في المسألة العراقية من جهة أخرى، فهذه الدول لا تريد الديمقراطية المفروضة عليها من الخارج ما لم تكن نابعة من الذات الوطنية لكنها لا تمانع بل أنها تدعم ديمقراطية الغزو والاحتلال الأمريكي في العراق؟؟؟هل دولنا غافلة عما يجري هناك؟؟ هل هي تجهل الأهداف والنوايا الأمريكية في العراق والمنطقة؟؟؟ بالطبع كلا!!! فهذه الدول تعرف كما يعرف كل العالم أن سياسة الولايات المتحدة تحت حكم اليمين الأمريكي المتطرف (المحافظون الجدد) تقوم على ركن أساسي وهو تفتيت وحدة بلدان المنطقة وشعوبها وأن هذا التفتيت يشمل كل مقومات الدولة والشعب من الناحية الدينية والعرقية والمذهبية والجغرافية وأنها ماضية في تنفيذ هذه السياسية بمختلف الوسائل وتحت يافطة الديمقراطية وحقوق الإنسان، وهي سياسة كانت معروفة ومعلنة قبل احتلال العراق ولكنها اليوم وبعد الغزو صارت أكثر وضوحاً في ظل الديمقراطية التي تبشر بها هناك!!! إذاً كيف يستقيم موقف هذه الدول من حرصها على سيادة العراق واستقلاله ووحدة اراضيه مع القبول بدعم (عملية سياسية) ستقود في نهاية المطاف إلى رهن سيادة العراق وتقسيم اراضيه ووحده شعبه؟؟ وما سوف تفرزه في حكومة ليس فيها شئ من الوطنية بعد أن رأينا تلك (القوائم) التي سوف تشارك في هذه "العملية المهزلة"؟؟؟، وكيف جرى تقسيمها عرقياً وطائفياً وهو ما يعني الإمعان في تمزيق النسيج الوطني والاجتماعي في هذا البلد لمصلحة قوى دولية وإقليمية.
إن هذا الاضطراب في المواقف والتناقض في السياسات من جانب هذه الدول أمر لا يمكن قبوله أو تبريره بل لا يمكن تفسيره إلا من زاوية الخضوع للضغوط الأمريكية والدخول معها فيما هو أشبه ((بالمقايضة)) السياسية التي تتم على حساب العراق وشعبه الذي هو الآخر يستحق أن تكون له (( ديمقراطية نابعة من ذاته الوطنية)) وأن تكون له حكومة تمثل إرادته وحريته وتقوده إلى الخلاص من نير الاحتلال؟؟ ولا يشفع لهذه الدول أنها قد طلبت من الولايات المتحدة التعاون مع الأمم المتحدة والمجتمع الدولي أو إنها دعت كل فئات الشعب العراقي للإسهام في هذه "العملية السياسية كما يسمونها" التي تتم تحت الحراب الأمريكية…
إن الخطاب السياسي غير الواضح وغير المفهوم والمواقف السياسية المتناقضة هي في الواقع ما يلغي الفواصل والتمايز بين مفاهيم الوطنية الصحيحة والاستقواء بالخارج أو العمالة للأجنبي، خاصة في هذه الظروف الحرجة التي تجتازها دول المنطقة وتشهد فيها هجوماً استعمارياً وطائفياً وإقليمياً مع انحسار في القيم والمبادئ الوطنية أو القومية.
إن خيانة الوطن والتعاون مع الأجنبي لا يمكن تبريرها وليس هناك أسباب مشروعة للخيانة التي هي في النهاية انحطاط وسقوط أخلاقي، لذا فأن هذه الدول التي تحرص على تقوية مناعتها من "فيروسات" الديمقراطية" المستوردة وتشعر بحساسية مفرطة من أي تعامل أو اتصال (لمواطنيها) مع أي جهة خارجية، كيف لها أن تسوغ فتح بلدانها أمام من يقود أبشع جريمة في حق وطنه، من أمثال أولئك العملاء والخونة والانتهازيين والطائفيين الذين تدنت نفوسهم إلى حد بيع وطنهم للغزاة المحتلين؟؟ فهل هذه هي النماذج ""القدوة " التي نقدمها لشعوبنا؟؟؟ لتتعلم منها كيف تصان حرمة الأوطان وكيف ندافع عنها عندما تتعرض إلى عدوان خارجي؟؟؟
وأخيراً نقول انه طالما بقيت دولنا غير قادرة على حسم خياراتها الوطنية والقومية، وطالما بقيت المنطلقات والأهداف غير مبدئية وغير واضحة سواء تعلق الأمر بالاستحقاقات الداخلية حول مسألة الإصلاحات والديمقراطية أو الموقف من القضايا القومية في فلسطين والعراق، التي يجب أن تنبع من المصلحة العليا للأمة العربية ووحدتها التي أثبتت الأحداث أنها وحدها الحصن المنيع من الطوفان القادم. نقول إذا لم تحسم دولنا هذه المسائل فأنها ستبقي عرضه للاهتزاز الداخلي وللابتزاز الخارجي!!!