تخدعنا عناوين الصحف هذه الأيام وهي توحي لنا بأن الشغل الشاغل للناس هو ما إذا كانت حالة الطوارئ قانونية أم غير قانونية، أو ما إذا كانت الانتخابات ستجري بالفردي أم بالقائمة، أو ما إذا كان قانون الغدر لا يزال في أدراج الحكومة أم أنه راح إلى المجلس العسكري.. أجزم لكم بأن هذا كله رغم ما له من أهمية لا يعدو أن يكون حديث نخبة، أما الناس فمشغولون في المبدأ والمنتهي بأن يكونوا آمنين على أرواحهم وممتلكاتهم.. الأمن بالنسبة لهم هو القضية، هو الحلم، لكنه حلم بعيد التحقيق لسبب مثير للعجب والأسى، أن المسؤولين عن الأمن أنفسهم هم العقبة الأولى أمام إرساء الأمن.
في هذا الشهر حدثت أربع وقائع مشينة استنفدت آخر حبال صبرنا مع وزارة الداخلية.. في السويس كانت الواقعة الأولى.. تقول جريدة «الشروق» إن محافظة السويس شهدت حالة من الغضب بسبب ما قامت به وزارة الداخلية خلال جلسة محاكمة المتهمين بقتل ثوار السويس عندما قدمت صحيفة حالة جنائية تبين أن معظم الشهداء كانوا مسجلين خطراً، لكن النيابة أكدت أن هذه الصحيفة مزورة بواسطة رئيس مباحث قسم السويس المتهم في القضية..
ونشرت الجريدة صورة من أحد المحاضر والتحريات المزورة التي قدمها الضباط، وأشارت إلى أن النيابة أكدت أن الضحايا هم شرفاء من شهداء الثورة قدموا حياتهم من أجل الوطن.. خلاصة هذه الواقعة التي لابد أنها تكررت في أماكن أخرى غير السويس أن وزارة الداخلية تزور في أوراق رسمية، والأنكى من ذلك أن التزوير تم بقصد تصوير شهداء الثورة على أنهم مسجلون خطراً، وبذلك تكون الشرطة التي قتلتهم في حالة دفاع عن النفس ضد مجرمين، وتعفي من العقاب، أي أنها تقتل الشهداء مرتين.
الواقعة الثانية كانت في بنى سويف، ونشرتها «المصري اليوم».. تقول الجريدة إن محامي أسر شهداء مركز ببا فجَّر مفاجأة خلال جلسة محاكمة 12 متهماً بقتلهم، على رأسهم مدير أمن بني سويف السابق، فقد أكد المحامي أن وزارة الداخلية أصدرت شيكاً ﺒ120 ألف جنيه ﻠ4 مصابين مقابل تنازلهم وتصالحهم وعدولهم عن أقوالهم التي أدلوا بها في النيابة..
ونشرت «المصري اليوم» صورة هذا الشيك.. والتقط الإعلامي البارز يسري فودة الخيط في برنامجه في «أون. تي. في» فاستضاف المحامي وواحداً من المصابين روى تفاصيل الوعيد والتهديد الذي تعرض له من جانب الشرطة حتى يتنازل، أما المحامي فقد نبهنا إلى أن الشيك من موازنة الدولة، وليس من جيب الضباط المتهمين، وأنه يعتبر دليلاً أكيداً على إدانتهم.. خلاصة الخبر واضحة، تؤدي إلى نفس ما استخلصناه من الواقعة السابقة، أن وزارة الداخلية تحاول في بني سويف، ومن المؤكد أنها تحاول في غيرها أيضاً، أن تطمس معالم الجريمة، وأنها تستخدم في ذلك أموالاً من جيوب دافعي الضرائب، أي من جيب الشعب الذي سقط منه مئات الشهداء في الثورة، أي أنها تزور في قضية الضحايا بفلوس الضحايا أنفسهم، وتقتلهم بذلك مرتين.
أما الواقعة الثالثة فكان مسرحها محكمة الرئيس المخلوع، حيث أدلى ثلاثة من كبار المسؤولين بشهاداتهم.. وبالرغم من أن الجلسات كانت سرية إلا أننا يمكن أن نستنتج مما سبق أن قالوه في مناسبات مختلفة، أنهم نفوا علمهم بأن هناك قناصة من الشرطة شاركوا في قتل الثوار.. هذا ما قاله وزير الداخلية الحالي ووزيرها السابق في تصريحات متعددة للصحف. أما عمر سليمان فكان قد قال من قبل في تحقيقات النيابة إن عناصر إجرامية وافدة من الخارج هي التي أطلقت النار على المتظاهرين.. المفاجأة أن «المصري اليوم» خرجت علينا إثر ذلك تكذب هؤلاء المسؤولين الكبار جميعاً في تحقيق استقصائي كان عنوانه «وزارة الداخلية استخدمت قناصة لقتل الثوار»، دعمته بالصور والوثائق وتسجيلات الفيديو، التي لم يكذبها أي مصدر رسمي.. إذن فالشرطة – عكس كل ما قيل- هي التي قنصت الشهداء، ووزيرها إما أنه يداري أو أنه لا يدري.. وفي كلتا الحالتين فهو يقتل الشهداء مرتين، مرة بالنار ومرة بالتزوير أو بالإهمال.
نأتي أخيراً إلى الواقعة الرابعة، التي حدثت يوم جمعة تصحيح المسار، عندما حاصر المتظاهرون وزارة الداخلية، فبالرغم من أن أحداً منهم لم يقتحم أسوارها إلا أن حريقاً نشب في مبنى الأدلة الجنائية الملحق بمبنى الوزارة. وقالت بعض الصحف إنها محاولة من وزارة الداخلية لإلصاق التهمة بالمتظاهرين للتدليل على وجود أعمال شغب من جانبهم، إلا أن الأمر أكثر تعقيداً من ذلك، إذ إنها ليست أول مرة يندلع فيها حريق في هذا المبنى بالذات، فقد سبق أن تعرض للحريق يوم 23 فبراير، وتعرضت مبان أخرى في الوزارة للحريق في أوقات مختلفة، منها الحريق الذي اشتعل في مبنى الإدارة العامة لاتصالات الشرطة المواجه لمبنى الوزارة الرئيسي في شهر مارس.. لماذا تتكرر الحرائق في محيط مبنى وزارة الداخلية؟ ولماذا تتكرر بالذات في مقر الأدلة الجنائية؟ ومن الفاعل بالتحديد؟ وما هي الأدلة التي اختفت بالضبط؟ تلك هي الأسئلة التي تنتظر الإجابة.. ومهما كانت الإجابة فهي لابد ترجح أن همَّ الداخلية الأكبر الآن، بل طوال الشهور الثمانية الماضية، هو طمس معالم جرائم الشرطة القديمة وليس بناء شرطة جديدة.
إذا كانت الداخلية تريد بناء شرطة جديدة فهي تستطيع.. يوم العيد أرادت أن تقدم لنا استعراضاً في الكفاءة ونجحت، ويوم الألتراس قدمت لنا استعراض قوة ونجحت أيضاً، ويوم اجتياح السفارة الإسرائيلية أثبتت لنا أيضاً أنها قادرة على الضرب بيد من حديد.. هي قادرة إذن أن توفر الأمن للشعب وتحميه من البلطجية وقطاع الطرق الذين تعرفهم جيداً، وقادرة على القبض على المجرمين ببراعة مشهودة على نحو ما حدث بعد مقتل الشهيد النقيب حازم محمود، وبعد الاعتداء على مأمور قسم بولاق.
الشرطة مؤهلة للعودة من جديد ليس فقط لأنه لا يزال بها عديد من الضباط الشرفاء الذين افتدى بعضهم الشعب بدمه، ولكن أيضاً لأن معظم قواتها عادت إلى الخدمة، وعلى ما نعلم فإنها استعادت إلى حد كبير تسليحها، والجيش زودها بالمركبات التي تلزمها، وغالبية مبانيها في حالة صالحة للعمل رغم ما لحق بها من أضرار.. ومع ذلك فالشرطة لا تعمل – دعونا نواجه الحقيقة- لأن قيادات مهمة ورتباً أدنى فيها لا تزال موالية ﻠ«العادلي» و«مبارك»، منهم من أدوا لهما التحية وهما أمام العدالة، ومنهم من اعتدى على أهالي الشهداء في ساحة المحكمة، ومنهم من عنَّف الشاهد التاسع وتهجم عليه لأنه شهد ضد «أسياده».. الشرطة لا تعمل لأنها، رغم جهود مخلصة متناثرة، لا تزال في صلبها هي شرطة القمع الفاسدة التي لم تتغير عقيدتها ولم يتغير منهجها وأسلوبها، ولأنها تريد للفوضى أن تستمر حتى يترحم الناس على أيام «مبارك» و«العادلي» ويقبّلوا يديها حتى تعود.
هذه المسرحية الماسخة لابد لها من نهاية، لأننا سئمنا، هرمنا، ونحن في انتظار أن تتحمل الحكومة ويتحمل المجلس الأعلى للقوات المسلحة مسؤوليتهما في إعادة الأمن التي تسبق أي مسؤولية أخرى، وهي مسؤولية أهم من الاستفتاء أو إصدار الإعلان الدستوري أو تشريع قوانين الانتخابات أو حتى إجراء الانتخابات ذاتها، وأهم من أي إنجاز آخر.. أمن الشعب يسبق هذا كله، ويتيح هذا كله.. وقد فشلت السلطة في تحقيق هذا الأمن، وأخفق في إنجازه وزير الداخلية.. ورغم ذلك فهو لا يزال يردد كلمته المأثورة: «الاستقالة لا تزال في جيبي».. فهمنا يا سيادة الوزير.. الاستقالة لا تزال في جيبك، لكن المفجع أن الرصاص لا يزال في صدورنا
موقع التجديد العربي