عبد الإله بلقزيز
في أجواء الفتنة الملعونة، المتنقّلة والمعمَّمة، وفي امتداد التخريب الذي ألحقته بالمجتمعات العربية: بشراً وحياةً ومقدَّرات ونسيجاً اجتماعياً ووحدةَ كيانات، بات في مقام الفريضة الوطنية والقومية-اليوم-إصدار قرارٍ عربي بتجريم الطائفية والمذهبية، أو-قُلْ- بتجريم المجاهرةِ بها في مجال الحياة العامّة، والتماسِها أداةً من أدوات السياسة، لِمَا في استخدامها – في المجال السياسي – من نتائج كارثية على المجتمعات والأوطان، على نحو ما نعاينُه ونعانيه، اليوم، في غير بلدٍ من البلدان العربية.
ليس من شواغل هذا الموقف، الذي نعبّر عنه، أن نصل إلى تشذيب الإسلام من هذه الآفة التي تزرع في قلبه الفُرقةَ والانقسام (وهو دين التوحيد ووحدة الجماعة والأمّة) ، فهذا أمرٌ من مشمولات عمل المصلحين الدينيين (إن كان لا يزال لهم، اليوم، وجودٌ أو شُبهةُ وجود!) وإنما شاغلُه تحييدُ الطائفية والمذهبية من السياسة، وفكُّ ارتباط هذه الأخيرة بهما، منعاً للخلط بين «الدينيّ» (المذهبي) والسياسيّ، وتحرير الدين من التلاعبات Manipulationsالسياسية، وتحرير السياسة من قواعد عمل أخرى غير سياسية تستخدم المطلق الديني في شأنٍ نسبيّ (بشري). ومن باب الاستطراد القول إن زوال الطائفية والمذهبية في الدين شأنٌ يتجاوز إمكانَ ما ندعو إليه ، لأنه من رواسب تاريخٍ طاعنٍ في السنّ لا يمكن مَحْوُهُ بقرار. ولكن مَحْوَ تدخُّلهما في السياسة ممّا لا يستعصي أمرُه على أيّ إجراء قانوني- سياسي من قبيل الذي دعونا إليه. وبيانُ ذلك أن السُّنَّةَ والشيعةَ، والإباضيةَ، والزيديةَ، والإسماعيليةَ…، في الدين، ستظل -إلى ما شاء الله- سنّةً وشيعةً وإباضيةً…إلخ، ولن يَحْمِلَ فريقٌ منها فريقًا آخر على التمذهب بمذهبه، حتى باستخدام القوّة غير الفكرية ، تماماً كما لم يستطع الكاثوليك والبروتستانت والأرثوذكس-في المسيحية – أن يحملوا بعضهم البعض على التمذهب بمذهبٍ واحد، على الرغم من مئة عامٍ من الحروب الدينية في أوروبا. ولكنّ هذه الكيانات المذهبية المغلَقة على نفسها – عَقَدياً وفقهياً – لا تملك أن تنقُل انقساماتها في الدين إلى الوطن والدولة، لأنّ ثمن ذلك فادحٌ أشدَّ الفداحة.
التمذهب في الدين ظاهرةٌ من ظواهر تاريخ الأديان عامةً، والأديان التوحيدية خاصةً ، ما حصل من تمذْهبٍ في الإسلام حصل-قبله-في اليهودية والمسيحية ولايزال، وليس فيه ما يُستَغرب أو يُستشنَع بدعوى أن الدين واحد. نعم، الدين واحدٌ كنصٍّ وتعاليم، ولكن الذين يتلقَّونه متعددون ومختلفون، لأن فُهومهم متباينة، وقراءاتهم للنصّ وتأويلاتهم له تسلك مسالك شتى، فتنشأ منها مذاهب في النظر متغايرة يحاول كلٌّ منها أن يقدّم نفسه بوصفه التمثيل الصحيح للدين، وأن يقدّم غيرَه منحرفًا أو مبتدعًا. حصل ذلك في المسيحية الشرقية منذ انقسامها إلى نِسطورية ويعقوبية وملكية وانقسامها إلى أرثوذكسية وكاثوليكية وبروتستانتية. ومثل ذلك وقع في الإسلام وتكرّس مع الزمن ليتخذ شكل تقاطبٍ عَقَدي (كلامي) وفقهي ليس في الوسع محْوُهُ، ولا حتى جَسْرُ الفجوة بين أطرافه المتباعدين.
هذا واقعٌ تاريخيٌّ موروث، ومترسّخٌ في الأذهان والنفوس، لا يمكن تبديدُهُ. في الوُسع مَحْوُهُ سياسيًّا، من طريق توليد علاقات أخرى للاجتماع السياسي غير العلاقات الطائفية والمذهبية، ولكن ليس في الوُسع مَحْوُهُ ثقافيًا (عَقديًا وفقهيًا) لأنه من عُدَّة التمثُّلات الدينية عند المؤمنين. ويزيد طينَ التمذهُب بِلَّةً أنه تَمَأسَسَ منذ القدم، وأن تَمَأسُسَه يُعاد إنتاجُه، اليوم، على أوسع النطاقات، بل هو تَدَوْلَنَ منذ أصبحت دولٌ، من عالم الإسلام، تتنزّل منزلة الناطق باسم هذا المذهب وذاك. ولقد كان من شأن المَأْسَسَة Institutionnalisationوالدَّوْلَنة Etatisationأن تُرسِّخا التمذهب أكثر من أي وقتٍ مضى ، ففيما كان التمذهب-في السابق- لَوْذاً بمقالة (خطابٍ) في العقيدة والفقه، وتحزُّباً لها في وجه أخرى، ومشايَعةً لأصحابها، المنظورِ إليهم بوصفهم الثقات وأهل الرأي القديم، بات (التمذهب) كيانيةً جماعية قائمة على منظومةٍ من المصالح المادية التي تَلْحَمُها وتصنع عصبيَّتَها. لم تَعُد الفكرة (الفقهية أو الكلامية) هي الجامعة تحت سقف تلك الكيانية، وإنما أصبحت المصلحة هي ما يجمع ويوحِّد ويصنع «الماهية» المتمايزة!
سيظل المتمذهبون بمذهبٍ متمذهبين به، في العقيدة والشريعة، إلى ما شاء الله، ولن يَزيدهم تفجير النزاعات المذهبية، والتقاتل باسم المذاهب وعلى حدودها، إلاّ تمسُّكًا مضاعفًا بمذاهبهم ومذهبياتهم. وليس هذا يعْنينا في الموضوع، إنما يَعنينا-في المقام الأوّل-أن لا ينتقل هذا الانقسام على الدين إلى انقسامٍ على الوطن وإلى انقسامٍ في صفوف الشعب والأمّة، باسم خلافات قديمة حصلت منذ ألفٍ وأربعمئة عام ! علينا أن نمنع، بكل وسائل القانون، استتباب الطائفية والمذهبية في السياسة والشأن العام، أو محاولات التسويغ لهما بأيّ مسمَّى مزعوم. ويدخل في جملة هذا المنع تجريمُ كلّ مجاهَرةٍ بهما في الحياة العامّة، ومعاقبةُ كلّ فِعْلٍ من أفعال التحريض الطائفي والمذهبي، من أيّ مصدرٍ مذهبيٍّ أتى، ومن أي جهة (فرداً أو حزباً أو جماعةً مذهبية). وعلى الدولة أن تُلزِم إعلامَها الرسمي، والإعلام الخاصّ المرخَّص له، باحترام مقتضيات القانون والوحدة الوطنية من طريق الكفّ عن استخدام المفردات الطائفية والمذهبية في الحديث في الشؤون العامّة (الأخبار، البرامج السياسية)، مثلما على القوى والمنظمات غير الحكومية، والمثقفين والإعلاميين الأحرار، قيادة حملة تشهير-واسعة النطاق-بقنوات الفتنة التي تؤدي أدواراً مشبوهة لصالح الصهيونية والسياسات الكولونيالية التقسيمية.
لقد أفسدتِ الطائفيةُ والمذهبيةُ الدين، وفرّقت وحدةَ المسلمين، وينبغي ألا يُسْمَح لهما بإفساد السياسة والوطن وتمزيق وحدة المواطنين. وإذا كان إصلاحُ الشأن الديني أمرًا ممتنعًا، اليوم، لغياب رجالاته من المفكرين المسلمين، فإن إصلاح الشأن السياسي بتحريره من المذهبيين، المتاجرين بالدين، أمرٌ في وُسع الدولة القيام به «قبل خراب البصرة»: كما يقول المَثَل.