يطرح الهجوم الذي شنته فجر الإثنين، من هذا الأسبوع قوة إسرائيلية، في عرض البحر، على قافلة الحرية، المتجهة إلى غزة لكسر الحصار المفروض على القطاع أسئلة ملحة عن أسباب تمسك الصهاينة باستمرار الحصار، وأيضا عن حالة التراخي، لدى بعض الأنظمة العربية، تجاه هذا الحصار.
في البداية نذكر القارئ أن الفلسطينيين، منذ عام 1973، أبدوا قبولا بوجود دولتين فوق فلسطين التاريخية، أحدهما فلسطينية فوق الأراضي التي احتلها الصهاينة، في يونيو عام 1967، والأخرى إسرائيلية على الأراضي التي احتلت أثناء النكبة عام 1948، رغم أن ذلك هو أقل بكثير مما صدر عن الأمم المتحدة في قرار تقسيم فلسطين رقم 181، والذي قضى بتقسيمها مناصفة بين اليهود والفلسطينيين. وقد تبنى المجلس الوطني الفلسطيني، قيام دولة فلسطينية في أراضي الضفة والقطاع. وجاء قرار مؤتمر القمة العربي في سبتمبر عام 1982، في فاس بالموافقة على قيام دولتين على أرض فلسطين التاريخية، ليدعم موقف منظمة التحرير وزعيمها ياسر عرفات.
وقد جرى توقيع اتفاقية أوسلو بين الفلسطينيين والإسرائيليين، عام 1993م، على قاعدة الاعتراف بقراري مجلس الأمن الدولي رقم 242 و338. وورد ذلك في الصيغة النهائية للاتفاق. كما تم الاتفاق على أن تنتهي مفاوضات المرحلة النهائية في فترة أقصاها خمس سنوات، يجري بعدها الإعلان عن قيام الدولة الفلسطينية المستقلة.
وإذا ما أخذنا نصوص اتفاقية أوسلو المذكورة بعين الاعتبار، وهي اتفاقية حكمتها توازنات القوة، وضعف الموقف الفلسطيني، وجاءت غالبية نصوصها لصالح الصهاينة، نرى بوضوح أن الدولة الفلسطينية التي كان يفترض أن يعلن عنها عام 1998، بعد خمس سنوات من توقيع اتفاقية أوسلو، لم تقم لها قائمة بعد مرور أكثر من 12 سنة على الموعد المفترض لقيامها. والمفاوضات الماراثونية في كامب ديفيد وواي ريفير وشرم الشيخ وأنابوليس لم تؤد إلى التقدم في تحقيق صبوات الشعب الفلسطيني نحو التحرير وإقامة الدولة المستقلة.
خلال الحقبة التي أعقبت توقيع أوسلو، تضاعف عدد المستوطنات الصهيونية، وجرت مصادرة المزيد من الأراضي. وقام جيش الاحتلال بعدد كبير من الاجتياحات بالضفة والقطاع. وحوصر الرئيس الفلسطيني، في مقر السلطة، برام الله إلى أن اشتد به المرض، ومن ثم غيبه الموت، في ظروف غامضة لم يكشف عن تفاصيلها حتى هذه اللحظة.
ووقفت الإدارة الأمريكية تطالب بإصلاح منظمة التحرير، وإجراء انتخابات حرة. وذهبت لاحقا إلى أبعد من ذلك حيث ضغطت على الرئيس "أبو مازن" لكي يجري انتخابات للمجلس التشريعي الفلسطيني. وشاركت حركة حماس في تلك الانتخابات، وفقا لسياقات اتفاقيات أوسلو، وحصدت غالبية الأصوات بالمجلس التشريعي، وجرى تكليفها بتشكيل حكومة فلسطينية جديدة.
كانت حركة حماس، واعية منذ البداية، لما ينتظرها. وفي عملية تحسب واضحة أعلنت عن استعدادها لتوقيع هدنة مع "إسرائيل"، لعشر سنوات، تتوقف خلالها عن العمل المسلح، تاركة للمفاوضين فسحة للتوصل إلى حل سلمي، يضمن قيام الدولة المستقلة. ومضت لاحقا إلى أبعد من ذلك، فأعلنت على لسان أمينها العام، السيد خالد مشعل عن استعدادها للتفاوض مباشرة مع الصهاينة، "بما ينسجم مع مصلحة الفلسطينيين في الضفة والقطاع". لكن الإسرائيليين، والإدارة الأمريكية اتخذوا موقفا معلنا منذ البداية برفض التعامل مع حركة حماس، باعتبارها منظمة إرهابية لا يمكن الوثوق بها. وقبلت حماس بوساطة مصرية قضت بتحقيق هدنة بين "الإسرائيليين" والفلسطينيين بالقطاع لمدة ستة أشهر. والتزمت بتلك الاتفاقية، لكن الصهاينة لم يلتزموا بها. ومارسوا حصارا قاسيا، وعملت آلتهم الحربية قتلا "بطيئا" في صفوف الفلسطينيين. وإثر انتهاء الأشهر الستة أعلنت منظمات المقاومة انتهاء الهدنة، المخروقة في الأصل من قبل الكيان الصهيوني، لتتطور الأوضاع بشكل مأساوي ومتسارع.
إن القراءة الدقيقة لأهداف الحصار، لا يمكن أن تكون صائبة إن لم يتم ربطها بالمشروع الذي أريد منذ زمن ليس بالقصير فرضه على المنطقة بأسرها، المعبر عنه بالشرق الأوسط الجديد. هذا المشروع يهدف إلى الاستعاضة بالبعد الاستراتيجي العسكري للمناطق الحيوية، بديلا عن الجغرافيا الطبيعية، ويهدف إلى تحقيق اندماج "إسرائيل" بالنظام العربي الرسمي، ليس بصيغة الشريك فحسب، ولكن بصيغة القاعدة العسكرية والاقتصادية والسياسية المتقدمة للمشروع الإمبريالي الغربي على الأرض العربية.
كان إيغال ألون، رئيس الوزراء الإسرائيلي، أول من لفت الانتباه، في أوائل السبعينيات من القرن المنصرم، إلى إمكانية قيام سلطة فلسطينية، تتمتع بحكم ذاتي، بالضفة والقطاع، وترتبط بكنفدرالية سياسية واقتصادية مع الأردن، وترتبط من جهة أخرى، بإسرائيل، وتكون معبرا بريا للتسلل الصهيوني، إلى القارات الثلاث: آسيا وأوروبا وأفريقيا. وقد تزامن مشروع ألون بربط "إسرائيل" بمشاريع تصدير الغاز العربي عن طريق الموانئ الفلسطينية، وبإيصال المياه عبر أنابيب تمتد من تركيا إلى الأراضي المحتلة. كما ارتبط أيضا بالحديث عن تحقيق توسع إسرائيلي في جنوب لبنان بهدف الوصول إلى مياه الليطاني، واستكمال مشروع تحويل مياه نهر الأردن إلى أراضي النقب، في القلب من فلسطين المحتلة.
حالت حرب أكتوبر عام 1973م، واتخاذ القادة العرب قرارهم التاريخي باعتبار منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، دون تحقيق مشروع ألون. ولم تكن فكرة قيام دولتين مستقلتين على أرض فلسطين التاريخية قد تبلورت بعد آنذاك لدى عرفات ورفاقه.
وخلال الحقبة التي امتدت، منذ منتصف السبعينيات حتى يومنا هذا، كان قطاع غزة متميزا في مقاومته ومناهضته للاحتلال. وكان القطاع من وجهة نظر الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، بما يمثله من ثقل سكاني وحركة رفض وممانعة مستعصية، يشكل عبئا ثقيلا على سلطات الاحتلال، وأثناء محادثات كامب ديفيد بين القيادة المصرية والصهاينة، حاول رئيس الحكومة الإسرائيلية، مناحيم بيجن إقناع الرئيس المصري، أنور السادات، بدمج موضوع القطاع بالمفاوضات، على اعتبار أن مصر كانت تدير القطاع حتى حرب يونيو عام 1967م. ورفض الرئيس السادات ضم القطاع للأراضي المصرية، خشية من تعقيدات ذلك على عملية التسوية السلمية برمتها، وأيضا لأن الحكومة المصرية، برئاسة السادات نفسه، كانت من الذين دعموا قرار مؤتمر القمة العربي في الرباط، بمنح منظمة التحرير الفلسطينية وحدانية تمثيل الشعب الفلسطيني.
بقي قطاع غزة مصدر إزعاج مستمر، لقوات الاحتلال الصهيوني. وكانت انتفاضة أطفال الحجارة، قد انطلقت من غزة، ومخيم جباليا… لتعم سريعا مختلف المدن الفلسطينية، ولتسجل صفحة فريدة، من صفحات النضال الوطني الفلسطيني. وكان القطاع هو حجر الزاوية. وحسب وصف رئيس الوزراء الصهيوني السابق، مثلت غزة كابوسا، يحرم القادة الصهاينة، من الأمن والطمأنينة. وفي واحد من أكثر تصريحاته مرارة وإحباطا تمنى أن لا يستيقظ صباحا من نومه إلا وقطاع غزة قد أزيل من الكرة الأرضية.
ليس ذلك فحسب، بل إن إدارة رابين، بادرت بالاتصال بأحد قادة حركة فتح في غزة، وعرضت عليه مشروع استلام الحركة لقطاع غزة، وتم تبليغ ذلك للرئيس الفلسطيني، ياسر عرفات، ولحقتها رسائل أخرى، عبر سعيد كنعان أحد الشخصيات النابلسية، وأحمد الطيبي، عضو الكنيست الإسرائيلي وعبد الوهاب الدراوشة عضو الكنيست الإسرائيلي، وكانت تلك الرسالة الشفوية وما تبعها من رسائل تضمنت استعداد "إسرائيل" تسليم غزة، لمنظمة التحرير، المقدمة لمفاوضات أوسلو، التي وانتهت بتوقيع اتفاق غزة- أريحا أولا في 17 أغسطس عام 1993م.
من هذه الخلاصة نصل إلى أن هدف السياسة الإسرائيلية في المناطق المحتلة، هو كسر إرادة الصمود تمهيدا لإعادة ترتيب الأوضاع السياسية في المنطقة، انسجاما مع مشروع الشرق الأوسط الكبير، الذي نظر له شمعون بيريز، وجرى تعديله لاحقا، تحت مسمى "الشرق الأوسط الجديد"، الذي سيأخذ مكانه من خلال "الفوضى الخلاقة" و"مخاض الولادة الجديدة".
انتهت حرب بيروت عام 2006م، دون إجراء تعديلات جذرية فوق رقعة الشطرنج، ودون تحقيق مخاض الولادة لشرق أوسط جديد، ودون اكتمال الخارطة الجديدة للكيان الصهيوني، وكانت كما تم توصيفها بحق من قبل بعض الزعماء الصهاينة، "حربا لم تكتمل". وبالنسبة لرئيس الوزراء الإسرائيلي المستقيل، أولمرت ووزير دفاعه موفاز نذير شؤم بنهاية مستقبلهما السياسي.
ومن جديد أعيد بعث مشروع إيغال ألون الذي طرح في مطلع السبعينيات، لكن دون قطاع غزة في هذه المرة، والتركيز فقط على الضفة الغربية، وربطها بكنفدرالية أردنية – إسرائيلية تكون منطلقا للتسلل الاقتصادي لعموم البلدان العربية، والعبور للقارات الثلاث: آسيا وأفريقيا وأوروبا.
وأثناء حرب غزة في مطلع العام المنصرم، صدرت ثلاثة تصريحات، تؤكد هذا الاستنتاج. التصريح الأول جاء في مقالة نشرها السفير السابق للولايات المتحدة في مجلس الأمن، جون بولتون في صحيفة الـ"واشنطن بوست"، ذكر فيها أن محاولة إقامة سلطة فلسطينية تقودها منظمة التحرير الفلسطينية القديمة فشلت، وأن أي حل قائم على دولتين على أساس السلطة ولد ميتا". إن فكرة الدولة الفلسطينية، من وجهة نظره، قد فشلت بشكل لا رجوع عنه "لأن الإرهابيين نجحوا في السيطرة على غزة". ورأى أن "خارطة الطريق" التي طرحتها الإدارة الأمريكية، لإحلال السلام بين الفلسطينيين والصهاينة لم تؤد إلى نتائج إيجابية، وأن الحل، عوضا عن ذلك يقتضي التفكير في مقاربة جديدة تقوم على أساس وجود "ثلاث دول" توضع بموجبها غزة مجددا تحت سيطرة مصر فيما تعود الضفة الغربية وفق صيغة معينة إلى السيادة الأردنية". إن ذلك حسب بولتون سيتكفل بتحقيق السلام بالشرق الأوسط. وقد أعيد نشر المقالة يوم الثلاثاء الموافق 5 يناير 2009، هذه باللغة العربية في صحيفة الشرق الأوسط اللندنية تحت عنوان: خيار الدول الثلاث".
التصريح الثاني، جاء من الملك عبدالله الثاني، أثناء لقاء صحفي له مع مدير فضائية الجزيرة بعمان. فقد عبر الملك عن قلقه من وجود مؤامرة على الشعب الفلسطيني، يجري التخطيط لها، ويتم تنفيذها بعد الانتهاء من حوادث غزة، وتهدف للقضاء ليس فقط على آمال الشعب الفلسطيني بقيام دولة مستقلة على أرضه، ولكن إلى صياغة خارطة جديدة لدول عدة بالمنطقة.
أما التصريح الثالث، فقد أورده الأستاذ محمد حسنين هيكل، في حوار له على فضائية الجزيرة أيضاً، وأجراه معه الصحفي، حسن عبدالغني، مدير مكتب الجزيرة بالقاهرة. وفي هذا الحديث أعاد هيكل تأكيد ما ورد في مقالة جون بولتون، وأشار إلى أن هدف الحرب إعادة ترتيب جملة الأوراق المتعلقة بالصراع العربي – الصهيوني.
إن الهدف إذا، هو فصل قطاع غزة للأبد عن الضفة الغربية، والعمل على إلحاقه بمصر، أو على الأقل وضعه تحت إدارتها. كما كان الوضع عليه قبل حرب يونيو 1967. أما الضفة الغربية فستغرق مجددا بأتون حرب أهلية، ويزج بعشرات الألوف من فلسطينيي أراضي عام 1948، إلى الضفة، وفقا لتصريحات سيبني ليفني. وسيجري طرح الأردن مجددا كوطن بديل للفائض من اللاجئين الفلسطينيين. وستوضع القيادة الأردنية أمام سياسة الجزرة والعصا، لدفعها للقبول بالواقع الجديد. وستكون بين خيارين أحلاهما كارثي ومفجع: إما القبول بفكرة الوطن البديل، وتحقيق اتحاد كونفدرالي مع الضفة الغربية، والارتباط اقتصاديا بالكيان الصهيوني، واعتبار الضفة الغربية حجر الركن في التسلل الاقتصادي والسياسي للوطن العربي، أو الدخول في أتون حرب أهلية لا تبقي ولا تذر.
في هذا السياق، نذكر ببعض التصريحات، لمسؤولين صهاينة، غطتها الصحف الإسرائيلية.
في حديثه عن الأهداف الاستراتيجية للحصار على غزة، أشار الكاتب مايكل شوسادوفسكي إلى أن "الحصار على غزة هو جزء من استراتيجية سرية، صاغها مستشار الحكومة الإسرائيلية في حكومة شارون، والمنسق الأمني والمخابراتي بين الحكومتين الأمريكية والإسرائيلية، ورئيس الموساد، داجان. ووفقا لهذه الخطة فإن ما تهدف له الاستراتيجية الإسرائيلية هو تدمير السلطة الفلسطينية، كخطوة ضرورية لمنع قيام دولة فلسطينية مستقلة، وتحويل أراضي القطاع والضفة إلى كانتونات منفصلة عن بعضها، وفصل الضفة الغربية نهائيا عن قطاع غزة، وضمان بقاء حكومتين متصارعتين إحداهما في رام الله والأخرى في قطاع غزة، حتى يتم استكمال تطبيق المشروع الصهيوني على كافة الأراضي الفلسطينية، والمتمثل في الطرد الجماعي للفلسطينيين، وإعادة إلحاق الضفة بالأردن. وأشار الكاتب.
أما إيهود بارك، رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق، فقد أكد في تصريح نشرته الصحف الإسرائيلية، أن الحرب على غزة هي محصلة أكثر من عام ونصف العام من الإعداد والتخطيط والتدريب.
الكاتب المعروف كريس هيدجز، كتب مقالا مهما عنوانه "لغة الموت"، أوضح فيه أن هدف الحصار على غزة هو خلق كانتونات، أو بالأصح غيتوهات فلسطينية يكون بمقدور إسرائيل دوما شل الحياة فيها، وتمنع عنها الدواء والغذاء ومقومات الحياة. وسيكون من نتائح ذلك القضاء نهائيا على إمكانية قيام دولة فلسطينية. "إن إسرائيل" لن تتعامل مع الفلسطينيين إلا بلغة القوة والموت". وتأتي في هذا السياق أيضا، دعوة جون بولتون لطرد الفلسطينيين إلى مصر والأردن. وباتساق مع هذه الدعوة كتب الصحفي الأمريكي، دانيال بايبس، مقالة طالب فيها بإلحاق قطاع غزة بمصر، والعودة إلى الخيار الأردني بالنسبة إلى الضفة الغربية. وتضامن الصحفي الأمريكي سينجلر مع هذه الدعوة فأشار إلى وجود حلين لا ثالث لهما لمعالجة الوضع في غزة، إما ترحيلهم عنها، أو تركهم يواجهون القتل. إن ما يحتاجه الشرق الأوسط من وجهة نظر هذا الكاتب، هو مزيد من القتل، وليس أقل. هذا يبدو مرعبا، لكنه الحل الواقعي الأوحد.
هذه إذن الأهداف الحقيقية للحصار، وهي التي تفسر الموقف الغاضب للكيان الصهيوني من تجرؤ أحرار العالم على محاولة كسره. ما هو سبب استرخاء بعض الأنظمة العربية، في مواجهة هذا الحصار، ومن الرابح والخاسر في النهائية المأساوية لقافلة الحرية، أسئلة سنحاول الإجابة عليها في الحديث القادم بإذن الله.