ينهض الشباب في كل حقبة من التاريخ بدور سياسي واجتماعي وثقافي تتعاظم مكانته أو تتضاءل تبعاً للظروف التي يعملون فيها، وللمستوى الثقافي الذي تحصّل لهم، ولحجم التحديات التي تعرض لهم وتحملهم على أداء ذلك الدور . وليس في هذه الحقيقة ما يثير غرابة، فالفئة هذه هي الأكثر حيوية في فئات المجتمع كافة، والأكثر معنية بإثبات ذاتها وإمساك مصيرها بنفسها من أية فئة عمرية أخرى . ولأن طموحها في أدائها دوراً كبيراً في المجتمع طموح مشروع وموضوعي، فإن تمتيعها بفرص أداء ذلك الدور يقع في صلب واجبات المجتمع، ليس فقط من باب إنصاف هذه الفئة، التي تمثل أكثرية المجتمع، في حقوق لها على المجتمع لا تقبل التفويت، بل أيضاً لأن المجتمع ذاك يغتني بذلك الدور أكثر ويستفيد من ثمراته كل الاستفادة، ويكتشف في أدائه من قبل الأبناء والأحفاد قانون الاستمرارية والتجدد فيه .
ليس في ما قام به الشباب العربي من ثورات وانتفاضات واحتجاجات، منذ الهزيع الأخير من عام ،2010 ما يبعث على الاستغراب وإن هو كان مفاجئاً . وقد يكون مأتى المفاجأة، من الاعتقاد الذي ساد، خطأ، عن جيل جديد غير مبال بالسياسة والشأن العام، بدليل عزوفه عن المشاركة السياسية طويلاً . غير أن المفاجأة ليست الاستغراب، وحتى الذين فاجأتهم الحركات الشبابية العربية بنفسها الثوري إنما تفاجأوا لأنهم استغربوا طويلاً كيف تقاعست عن أداء دورها الاجتماعي المفترض . وهكذا لا غرابة إن نهض الشباب العربي بما نهض به أخيراً . الغرابة، كل الغرابة، في أن لا يفعل . ولقد فعل فأسقط كل حجة عليه ممن آخذوه .
أما إذا كان ثمة ما يستغرب له، في هذا الباب، فهو تصوير انتفاضة الشباب العربي وكأنها حدث غير طبيعي أو خارق للنواميس، وهذا عين ما نلحظه في كثير من الكلام الاحتفالي عن ثورات الشباب في بعض الخطاب السياسي والإعلامي العربي، بل في المعظم المتداول منه . وهو كلام فقير إلى الحصافة وإلى النظرة التاريخية، وإلى الحد الأدنى من المعرفة بتاريخنا السياسي الحديث والمعاصر .
ربما اكتهلت الحركات السياسية العربية القائمة الآن أو حتى شاخت، وطنية كانت أو قومية أو يسارية أو ليبرالية أو إسلامية، لكنها عند قيامها قبل عقود إنما أنشأها مناضلون شباب في العشرينات أو الثلاثينات من العمر، والحركات الوطنية التي قاومت الاحتلال الأجنبي في ديارنا العربية وقاتلته بالسلاح ودحرته وانتزعت الاستقلال الوطني إنما كانت شبابية مولداً وقيادة وعملاً . ثم هل ننسى أن الذين أطلقوا الكفاح المسلح الفلسطيني، قبل قريب من نصف قرن كانوا شباباً بين الخامسة والعشرين والخامسة والثلاثين من العمر؟ وهل ننسى أن أعمار الذين صنعوا ملحمة انتفاضة عام 1987 في فلسطين لم تتجاوز الثمانية عشرة، كما لم تتجاوز أعمار أبطال انتفاضة الأقصى للعام 2000 العشرين عاماً؟ وكيف ننسى أن الذين حرروا جنوب لبنان ودحروا الاحتلال “الإسرائيلي” في عام ،2000 والذين ألحقوا الهزيمة ب”إسرائيل” في حرب 2006 طلبة مقاتلون لا يتجاوزون العشرين عاماً إلا بقليل؟ من يعرف تاريخنا السياسي يعرف ما الذي فعله الشباب في المعركة الوطنية والديمقراطية ضد الاحتلال الأجنبي والاستبداد الداخلي . وهل دخل السجون العربية في الثمانين عاماً الأخيرة غير الشباب في زهرة العمر العشرينية؟
لم يكن الشباب العربي خارج أحداث السياسة أو بعيداً من منعطفاتها الكبرى حتى يهجم علينا، اليوم، هذا السيل من المديح الايديولوجي الاحتفالي الذي يكيله لهم من لا يبدو على وعيه بعض قليل من المعرفة بتاريخنا السياسي . والحق أن القارئ في النصوص المدبجة في مديح الثورات الشبابية يلحظ أنها من نوع النصوص المسمومة، أو قل إنها من جنس النصوص التي تدس السم في العسل . يكفي القارئ اليقظ أن يقشرها من مفردات المجاملة، ومن إخراجها الاحتفالي الزائف، حتى يكتشف أن لبها فاسد ومفتقر إلى ماء الحياة، وأنها تنطوي على مقدار مزدوج من الاحتقار واللؤم في النظر إلى الحركات الشبابية، يساق لأهداف أخرى ليس منها قطعاً إنصاف هذه الحركات الشبابية ولا تزويد نضالها الديمقراطي بأية رؤية سياسية يستفيد منها اليوم وفي المستقبل .
فأما ما في ذلك المديح اللئيم من احتقار، فبيّن في غير مكان منه، فهو إذ يصور شباب الثورات والانتفاضات جمهوراً اجتماعياً يسترد وعيه، ويصحو، يسلّم ضمناً أنه كان فاقداً ذلك الوعي، سادراً في سباته، مستمرئاً كسله وخموله . هل ثمة من احتقار للشباب أكثر من هذا الاحتقار الذي يضمره ذلك النوع من المديح اللئيم؟
انه الذم في معرض المدح إذن! الذم الذي لا يكلف نفسه حتى تفسير كيف يمكن لذلك الشباب أن ينتقل انتقالة سحرية، ومن دون مقدمات أو أصول، من اللامبالاة والغرق في التواكل والكسل إلى المشاركة السياسية من بوابتها التاريخية الكبرى: الانتفاضة والثورة . مديح ساقط هو ذلك المديح في مضمره الأخلاقي وفي مبدئه التفسيري لحدث الصحوة الثورية الشبابية .
وأما ما في المديح ذاك من لؤم، فمبناه على قصدية سياسية بائسة مؤسسة له هي: دق الأسافين بين الشباب ومن يكبرهم سناً من كهول وشيوخ كان لهم في النضال الديمقراطي والسجون والمنافي والتشرد نصيب، وتحريض الشباب عليهم بدعوى إخفاقهم في مشاريعهم السياسية، وإيهامهم بأنهم تخطوهم وتخطوا أحزابهم وبرامجهم وأفكارهم، وأنهم باتوا البدلاء الوحيدين في ساحة سياسية قفراء إلا من نبتهم وزرعهم . والهدف؟ بث الفرقة بين الأجيال في المجتمع السياسي والمدني، والتأسيس لحرب أهلية صامتة، وحرمان الحركات الشبابية من خبرات القوى الوطنية الديمقراطية قصد دفع انتفاضاتها إلى الاصطدام بما تنوء به الإمكانات ويخرج عن نطاق الممكنات . لئيم هو أم خبيث ذلك المديح؟ لا فرق في النتائج . .
حين تكاثر المديح للثورة الفلسطينية وشعبها قبل أربعين عاماً، لاحظ الراحل الكبير محمود درويش خطورة ذلك المديح على القضية، فأطلق صرخته الشهيرة: “انقذونا من هذا الحب القاسي” . ونحن هنا، أمام هذا السيل من المدائح المشتبه في طويتها ومقصديتها، نقول ما قال محمود .
الخليج الإماراتية :الاثنين ,24/10/2011