إثر وصول اليمن المحافظ إلى سدة الرئاسة، بالولايات المتحدة الأمريكية، برزت ظاهرة جديدة في تقييم السياسة الأمريكية، مشيرة إلى دور غير معهود للديانة المسيحية في صياغة السياسة الأمركية. واستدل على ذلك بخطب الرئيس الأمريكي، جورج بوش وبشكل خاص إشارته إلى أنه يخوض حربا صليبية في مواجهة الإرهاب. كما أشير إلى سيرة الرئيس الشخصية، وبشكل خاص، المرحلة التي أعقبت تخلصه من الإدمان على الكحول، كدليل على ذلك.
وبناء على ذلك تم ما يدعى برصد التفاعلات والتأثير المتبادل بين الدين والسياسة، في فترة بوش التي استمرت ثماني سنوات. وفي هذا السياق، جرى عزل هذه الحقبة عن التاريخ الأمريكي المعاصر، وغيب في هذه القراءات العوامل المؤثرة في صياغة السياسات الأمريكية، وبشكل خاص منذ أصبحت الولايات المتحدة قطبا فاعلا ومؤثرا في السياسة الدولية. إن ذلك، دون شك، يجعل القراءة مجتزة، لأن السياسة لأمريكية البوشية، ليست مقطوعة عن السياسات السابقة التي انتهجتها الإدارات السابقة، حتى فيما يتعلق باستثمار موضوع الدين.
فمنذ الخمسينيات، اقترحت إدارة الرئيس الأمريكي، دوايت أيزنهاور قيام أحلاف عسكرية في المنطقة على أسس دينية، وأعيد طرح ذلك مرة أخرى، في منتصف الستينيات. والحرب الباردة، كانت، حسب ماكنة الاعلام الأمريكي، حربا بين الإلحاد والإيمان. والقوى الدينية، التي اضطلعت بدور رئيسي في مواجهة التيارات القومية واليسارية في المنطقة، كانت مدعومة من قبل الولايات المتحدة والأنظمة المحافظة الحليفة. وكان استثمار الدين في السياسة قد دفع بالرئيس الأمريكي، رونالد ريجان لاستقبال "المجاهدين" الأفغان بالبيت الأبيض. وكان الاسلام السياسي، يقود المعركة الأمريكية في المنطقة، ويشرف على الإذاعات "الحرة" الموجهة لشعوبها، داعية للاطاحة بالأنظمة الشمولية "الكافرة الملحدة".
وكان تأسيس حركة طالبان في باكستان، وتنظيم القاعدة في أفغانستان قد حظي بضوء أخضر، ومباركة أمريكية، إلى أن أنجزت مهمة طرد السوفييت من أفغانستان.
والانتقال الذي حدث، في عهد بوش، هو انتقال في الموقف السياسي، استثمر فيه الدين، كما استثمر في السابق. وقد بقيت السياسات الأمريكية تجاه المنطقة، محكومة بجملة من العناصر، ترتكز جميعا على ضمان تدفق النفط، بأسعار مقبولة إلى الغرب، وأيضا بضمان استمرار التحالف الاستراتيجي من قبل دول المنقطة مع الولايات المتحدة في الحرب الباردة. وخلال أكثر من خمسة عقود، كانت الإدارات الأمريكية ترسم السياسات والاستراتيجيات، وكانت مهمة الأنظمة الحليفة لها في العالم، العمل وفقا لتلك السياسات والاستراتيجيات.
ولم تنبثق تلك السياسات والاستراتيجيات، تنبثق فجأة أثناء رئاسة بوش. فالحديث عن احتلال منابع النفط جرى منذ منتصف السبعينيات، وشكلت من أجله قوة تدخل سريع، تحولت لاحقا إلى قوة نجم ساطع.. بل إن العراق، كان موضع اهتمام من قبل مراكز استراتيجية منذ تلك الفترة، أشارت له باعتباره منطقة رخوة، وهيأت الأرضية والسياسات، منذ عهد الشاه، للتطورات التي حدثت مع بداية التسعينيات. وكان الإعداد للمتطلبات اللوجستية للغزو قد بدِأ قبل ثلاثة عقود، من احتلال العراق، وقد اتضح ذلك أيضا، في انتقال مركز الجاذبية في الصراع على المنطقة من حوض البحر الأبيض المتوسط، إلى ضفاف الخليج العربي.
والحديث عن صياغات جديدة للخارطة السياسية في المنطقة، لم يبدأ بعهد الرئيس بوش، بل طرح بحدة، بعد انتهاء حرب الخليج الثانية عام 1990، حيث أشار وزير الخارجية الأمريكي آنذاك، جيمس بيكر بأن خارطة المنطقة سوف يعاد تشكيلها، بصيغة أكثر دراماتيكية مما جرى، بعد الحرب العالمية الأولى، إثر وضع اتفاقية سايكس- بيكو ووعد بلفور موضع التنفيد.
في نفس الوقت سربت لوسائل الإعلام الغربية تقارير مجهولة المصدر عن سيناريوهات محتملة لتقسيم دول المنطقة. وكان التقرير الأكثر صراحة وخطورة قد صدر من معهد راند للدراسات الاستراتيجية، تحت عنوان الاستراتيجية الكبرى، وقعه العشرات من الخبراء والسياسيين الأمريكيين. ولم يشمل التوقيع صقور اليمين الأمريكي المحافظ فحسب، بل شمل مسؤولين في إدارات أمريكية مختلفة، جمهوريين وديموقراطيين. والتقرير المذكور منشور في كبريات الصحف العالمية تحت عنوان الاستراتيجية الكبرى.
خلاصة القول أن هذه السياسات كانت قائمة فعلا قبل وصول اليمين المحافظ إلى الحكم، ولم يكن للتوجه الديني لليمين المحافظ، علاقة بالتطورات التي حدثت في عموم المنطقة. بل إن مشروع تحرير العراق، الذي وضع مقدمات احتلال العراق، وساهم عمليا من خلال فرض الحضر الجوي شمال وجنوب العراق، لأكثر من عشر سنوات هو قرار ديموقراطي، برز في عهد الرئيس بيل كلينتون، واستمر الجمهوريون لاحقا في تبنيه.
الضجيج الذي جرى في عهد الرئيس الأمريكي جورج بوش تجاه دول المنطقة، انتهى باحتلال العراق، وبقيت علاقات الولايات المتحدة مع حلفائها بالمنطقة، راسخة كما كانت من قبل. وتغيرهذه العلاقات هو رهن بتغيرات جوهرية في السياسة الدولية، وتحولات في موازين القوى، وليست رهنا لوصول هذا الفريق أو ذاك لسدة الرئاسة في البيت الأبيض. وبالنسبة لما يدعى بالحرب على الإرهاب، تواصلت هذه الحرب بعد مغادرة بوش للبيت الأبيض، وأضحت ولا تزال شاغل الرئيس أوباما.
إن اعتبار الدين عنصرا مهما في صنع السياسة الأمريكية، يستحضر الجدل الفلسفي الذي بدأ منذ أقدم العصور، حول ما هية الأشياء. وأيهما المرجح، الفكر أم الدماغ في صناعة التاريخ الإنساني. السياسات الأمريكية، طيلة تاريخ هذه الأمبراطورية لم تنبع من منظومة قيم مونتيسكيو ولوك وروسو، ولا من الديانة المسيحية بل من بروكلين ووول ستريت والكارتلات النفطية، بعيدا عن ملكوت السماء. لقد كانت الأفكار، ومباديء الدين والقيم الإنسانية النبيلة، حاضرة باستمرار لدى الغزاة، لتبرير سطوهم ونزوعهم نحو الهيمنة.